فوائد صنديحة الأسد

فوائد صنديحة الأسد

21 يوليو 2019

بشار الأسد عند صورة والده في دمشق (24/4/2000/فرانس برس)

+ الخط -
"أيها الإخوة المواطنون، يا أبناء شعبنا العظيم الباسل، يا أحفاد خالد، وصلاح الدين، وعقبة، أيها الزاحفون لتحرير الأرض المغتصبة، السائرون خلف القيادة الحكيمة للرفيق المناضل الذي يسير بنا إلى جبهات العز وموارد الفَخار".. بمثل هذه العبارة الفضفاضة، كانت، وما زالت، تبدأُ معظم المهرجانات الخطابية في عهد الديكتاتورين حافظ الأسد ووريثه.
لا تحتاج هذه الخطابات، عندما يُعِدُّها الخطباء للإلقاء في المناسبات، إلى مهاراتٍ إبداعية خاصة، أو جهد بحثي مُضْنٍ، أو مراجع نادرة، فالعبارات والمعاني التي كانوا يَكُرُّونها على مسامع الناس لم تكن مرمية على قارعة الطريق، كما قال الجاحظ، وحسب، بل إنها مرمية عند حوافّ الأرصفة، وفي الأزقة المتسخة، وعلى البيادر، وفي الزوايا التي تُكتب عليها عبارة "كلب ابن كلب من يبول هنا". وهُمْ يعرفون أن المواطنين الذين يأتون لحضور المهرجانات والاستماع إلى خطاباتهم الصميدعية لا يأتون عن طيب خاطر، بل رغماً عن الذين خلّفوهم. ولذلك شاعت عباراتُهم وكلماتُهم، من كثرة التكرار، حتى حفظها الناس الغلبانون غيباً، وأصبح الخطباءُ الصناديد يتسابقون في مضمار الخطابات مثلما تتسابق الخيولُ غير الأصيلة في الطرقات البرّية، فهي تُعْلَفُ جيداً في الليل، وعندما ينطلق السباق صباحَ اليوم التالي، تنطلق كالسهام، وتنهب الأرض، حتى ليظن رائيها أنها خيول أصيلة، ولكنها، وما إن ينتهي مفعول الشعير الذي تناولته في الليل حتى تتعب، و(تُهَلِّش)، وتتساقط على جانبي الطريق، مثلما يتساقط الرفاق على دروب النضال.
المواطنون الذين يُجْبَرُون على حضور المهرجانات؛ ولأنهم يحفظون الخطابات الإنشائية عن ظهر قلب، تراهم يُعَطّلون حاسة السمع لديهم، وتبدأ أبصارهم بالتركيز على مؤخرة المتحدّث، فعندما يعص الخطيبُ على نفسه ويصرخ: أيها الإخوة الشرفاء.. يتهيأ لهم أنه سيبيض، أو أن سحابةً من الدخان الأسود ستخرج منه.
المشهد التلفزيوني الذي يراه المواطنون في أثناء بث وقائع المهرجان الخطابي لا بد أن يكون خالصاً، مصفّى، صالحاً للعرض مرة ومرتين وعشراً.. وهو مشهدٌ خالٍ من الطرافة، وعلى حد تعبير الفنان ناجي جبر "ما لَه فكاهة ولا مازيّة". وأما في البيوت المغلقة التي يكون ساكنوها متحرّرين من الخوف، نسبياً؛ فتحدُث الأشياءُ المسلية، المضحكة، ومنها ما رواه الخال، أبو رفعت الكفرنبالي، وهو أنه، حينما كان صغيراً، دخل على والده الذي كان مستغرقاً بالفرجة على مهرجان خطابي، يقام في ذكرى الحركة التصحيحية، ومن كثرة ما كانت الكاميرا تُرَكّز على وجه حافظ الأسد، وترصد مشاعره، وهو يتلقى المديح والنفاق من الرفاق، أعضاء القيادتين القومية والقُطرية لحزب البعث، وأعضاء مجلس الشعب، والأمناء العامين لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، بسرور ظاهر للعيان، لا بل بمتعة تبلغ الذُرى.. قال مخاطباً إياه: وقواس. يلعن هالصِنْدِيْحَة.. والصنديحة، بلغة أهل كفرنبل، هي الجبهة العريضة المتطاولة البارزة. وبعدما قالها وجد ابنه حسن (يُعرف الآن بلقب أبو رفعت) واقفاً، فارتبك، وقال له: مِنْ أيّ وقتْ أنت هون؟ فقال حسن: من وقت ما أنت سَبّيت على صنديحة حافظ الأسد.
ولأن الآباء في سورية كانوا يخافون من أن يشي بهم أبناؤهم، فقد شرع الأب يسترضي ابنه، ويحاول إبعاد الشبهة عن نفسه، موضحاً أنه لم يكن منتبهاً لما يبث على شاشة التلفزيون، وإنما كان يتذكّر ابن قرية "معرتحرمة" الذي يُلَقَّب "أبو صنديحة". وقد جاء إلى كفرنبل البارحة، وكانت معه بقرة يريد أن يبيعها، ويطلب بها مبلغاً كبيراً، وكيف أنه أراد أن يشتريها منه، واختلفا حول السعر، وتطوّر الخلاف إلى ملاسنةٍ كلامية حادة، وفي النهاية قال له: وقواس. يلعن هالصنديحة! وبالطبع، لم يقتنع حسن، وتمكّن، بعد هذا الموقف الرهيب، من ابتزاز والده، وإرغامه على تخصيص خرجية يومية له، مقدارها نصف ليرة، بينما بقيت الخرجية المخصصة لإخوته الآخرين على حالها، ربع ليرة فقط.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...