حاشية من أكرم زعيتر

حاشية من أكرم زعيتر

16 يوليو 2019
+ الخط -
هي ثلاث صفحاتٍ فقط، من بين 672 صفحة بين دفتي الكتاب الثقيل القيمة "يوميات أكرم زعيتر.. سنوات الأزمة 1967 – 1970"، الصادر أخيراً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تتوقف عندها هذه العُجالة، ما يعني أن مطالعةً، وافيةً بعض الشيء، ربما يُنجزها لاحقا صاحب هذه الكلمات، عن هذا الكتاب الذي يستحقّ مقادير فائضةَ من الاحتفاء به، لعظيم أهميته، وللمرجعية الموثوقة والموثّقة التي يتصف بها، بصدد فترةٍ شديدة الحساسية في تاريخي الأردن وفلسطين. أما الصفحات الثلاث فهي ما دوّنه الوزير الأردني العتيق، والمناضل الفلسطيني، والعروبي الأريب، أكرم زعيتر رحمه الله (1909 – 1996)، يوم 20/1/1969، عن جلسةٍ لمجلس الأعيان الأردني، وكان زعيتر عضوا فيه، طُلب في أثنائها من أعضاء المجلس الموافقة على سبعة عشر قانونا أحالها مجلس النواب على مجلس الأعيان (كلاهما يمثل البرلمان ومسمّاه مجلس الأمة)، بعد أن أقرّتها اللجنة القانونية. وبعيدا عن التفاصيل، وعن اعتراض زعيتر على عرض المسألة بهذه الصيغة، ثمّة تفصيلٌ له قيمته الجوهرية، وإنْ بدا ثانويا، أثاره زعيتر نفسُه، كما أورد الحكاية من مختلف جوانبها. 
بعد أن ذكر مقرّر اللجنة القانونية اسم القانون الأول، وقف العين أكرم زعيتر، وقال "إنني طالعتُ القوانين التي أقرّتها اللجنة ويُطلب إلينا الموافقة عليها، وهي محشوّةٌ بالأغلاط اللغوية حشوا، ومن الأغلاط ما يبدّل المعنى تبديلا، بل إن فيها ما يعكس مقصود مشرّع القانون [...] ولو أقام أحدُهم دعوى أمام محكمة العدل العليا في أمرٍ يتعلق بتنفيذ بعض المواد لربحها". وبعد أن ضرب أمثلةً على ما قال، أضاف زعيتر "لا يُفترض أن يُكتب القانون بأسلوب ابن المقفع أو الجاحظ، ولكن لا بد أن يتوافر لكل قانون عنصران، الوضوح وصحة اللغة...". ثم اقترح عينٌ آخر ضم زميله زعيتر إلى اللجنة القانونية، على أن يقدّم جدولاً بالأخطاء اللغوية، ويُصار إلى الأخذ بتصويباته"، فتقرّر ذلك بالإجماع، ثم قال رئيس الحكومة، بهجت التلهوني، إن العين المحترم أكرم زعيتر يستطيع في اللجنة القانونية "أن يحول دون وصول القوانين إلينا وهي مغلوطة". 
لقائلٍ أن يقول إن المؤرخ والأديب، أكرم زعيتر، إنما كان يحمل السلّم بالعرض، في ملحوظته تلك، ولقارئ كتاب اليوميات، الشائق، أن يعقّب على قولٍ كهذا إن زعيتر كان يحمل السلّم بالعرض في قضايا عديدة، كما دلت على ذلك تدويناته اليومية، من قبيل تألّمه من أن تكون الحياة النيابية في الأردن شكليةً، وأن يكون العمل النيابي الصحيح مفقودا، كما يكتب في مختتم الصفحات الثلاث التي تعتني بها هذه المقالة (أو العُجالة كما أشير أعلاه؟). وعندما يكتب إن صحف اليوم التالي أجملت ما قيل في مجلس الأعيان، وتعمّدت إغفال اسمه، ولم تنشر شيئا ألبتة مما قاله، فذلك يعني أن أكرم زعيتر كان عارفا بمسؤولية موقعه، وقيمة ما يُؤاخِذ عليه الحكومة (وغيرها) عليه، وعلى ما أفاد، فإن إيعازا من الحكومة للصحف ألا تنشر شيئا مما قال، ما يعود إلى حديثِه في الجلسة نفسها في قضية تعيين مديرٍ عام لمؤسسة التسويق الزراعي، وهو ما لم تكن الحكومة تريد أن يتحدّث الناس فيه.
لا تزيّد في زعم كاتب هذه السطور هنا إنه ما زال ملحّا (وخالدا ربما) مطلبُ أكرم زعيتر، قبل خمسين عاما تحت قبة البرلمان الأردني، أن تكون القوانين غير محشوّةٍ بالأغلاط اللغوية، وأن يتوفر لكل قانونٍ الوضوحُ وصحة اللغة. وفي الوسع أن ينكتب هنا، من دون تحرّز كثير، إن هذا المطلب ينسحب على غير بلد عربي، فحال العربية في بلادِها يبعث على شديد الأسى، من فرط الاستهانة بها، والاستخفاف بوجوب حمايتها. ولأن هذا موضوعٌ شرحُه يطول، فيمكن  أن يستوحي واحدُنا مما جاء عليه زعيتر الطلبَ من أهل الحكم في بلادنا العربية، ومن المشتغلين بالسياسة والعمل البرلماني (لو أحدٌ يراقب لغة رئيس مجلس الشعب المصري، علي عبد العال)، أن يدركوا أي بؤسٍ يصنعونه، وهم يبهدلون اللغة العربية، كما يفعل، مثلا، رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، عندما يقرأ خطاباتِه من ورقةٍ قدّامه.. بالعامية (!). والشواهد على هذا البؤس أكثر من أن تُحصى، سيما في غياب رجالٍ في البرلمانات العربية في حواشيهم غيرةُ أكرم زعيتر على لغة أمتهم.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.