"عندما تشيخ الذئاب"

"عندما تشيخ الذئاب"

07 يونيو 2019
+ الخط -
لم يكن صديقُنا الروائي، الراحل قبل سنة عن 64 عاما، جمال ناجي، ليزعل، لو شاهد مسلسل "عندما تشيخ الذئاب"، في موسم رمضان الأخير، والمأخوذ عن روايته (طبعتها الأولى في 2005) بالاسم نفسِه، لأن السيناريو ألغى بعض الوقائع، وغيّر في النهاية، وأضاف أحداثا ليست في الرواية، وإنْ حافظ على المسار العام للنص، وعلى طبائع الشخصيات فيه. كان جمال سيقول إن الرواية له، فيما المسلسل لمخرجِه (عامر فهد) وكاتب السيناريو (حازم سليمان). وأظنّه كان سيقول البديهيّ، إن الأحكام على أي نصٍّ أدبي إنما تصدُر عن منظوراتٍ نقديةٍ غير التي تخصّ الدراما، وإنْ أمكن التقاء تقاطعاتٍ بينهما. وأظنّه أيضا كانت ستسُرّه سورنة (صارت سوريةً) روايته الأردنية، عندما أصبح جبل الجوفة في عمّان حارةً دمشقيةً شعبية، مثلا، وعندما أصبحت البيئة السياسية والاجتماعية في المسلسل سوريةً في التسعينيات وبعض الثمانينيات، فيما هي أردنيةٌ عمّانيةٌ في الرواية. ما يعني أن "عندما تشيخ الذئاب" روايةٌ تتوفّر على ممكناتٍ حكائيةٍ ونفسيةٍ واسعةٍ تجعلها مغويةً لسيناريست ومخرجٍ سورييْن، ولطاقم ممثلين سوريين أيضا، ليصنعوا منها دراما تخصّ بلدهم، وظروفٍ مرّ بها. وهذا دليلٌ مُضافٌ على نجاح هذه الرواية في إمتاع قارئها ومؤانسته، بما حضر فيها من مقادير تشويقٍ باهظة، أتقن جمال ناجي حبْكاتها، وهو المنحاز أصلا، في خيارِه الجمالي في عموم تجربته (تسع روايات وأربع مجموعات قصصية)، إلى الحكاية، أي إلى مسار قصةٍ تحتشد بالأحداث، ما يجعل نصوصَه جذّابةً لصنّاع الدراما. 
أقام جمال "عندما تشيخ الذئاب" على سرد ستةِ رواةٍ بضمائرِهم متكلمين عن أنفسهم وعلاقاتهم ببعضهم، وعن وقائع تخصّهم، ونجحت الرواية في لململة الخيوط المتشابكة المتحدّث عنها، في مسار زمنيٍّ متصاعد، متقاطعٍ أحيانا. والبديع في هذا العمل (القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية في 2010)، أن كل شخصيةٍ مكتملة، ولها حكاياتها، وتنجح لغة الحكي، المتوتّرة في مطارح والمتمهلة في أخرى، في التعبير عن انكشاف دواخل هذه الشخصيات وتوتّراتها وتحوّلاتها، في عدة فضاءاتٍ مكانية، وفي بيئاتٍ كثيرة. وبذلك، لم توفّر الرواية لكاتب سيناريو المسلسل مسارا خطّيا، يصنع منه تتابعا دراميا، وإنما جعلته يعيد تركيب الحكاية، ويبني معمارها من تفاصيل وفيرة فيها، ويفيد من إحالاتها إلى ماضٍ لهذه الشخصية ولتلك. ولمّا نقل الزميل السابق، حازم سليمان، النص من عمّان إلى دمشق، فإنما نقل محكيات الرواية عن أحوال مناخٍ اجتماعيٍّ وسياسي أردني إلى أجواء سورية، رأى صنّاع المسلسل أن يُعطى فيها شيخ الدين الذي حارب السلطة ثم صار من دواليبها حيّزا شاسعا. كما رأوا السلطة حاميةً للدولة، متسامحةً بعض الشيء مع خصومها، بعد نباهتها في تطويعهم، وهي المتنبهة دائما، وتُمسك كل خيوط المجتمع وتراقبه باقتدار.
وقع مسلسل "عندما تشيخ الذئاب" في سوءاتٍ شائعةٍ في الدراما العربية، منها المطمطة التي يتم فيها افتعال حوادث ووقائع فائضة، وعدم السيطرة جيدا على إيقاع الزمن الجاري ومساره، واصطناع انفعالاتٍ ومواقف غير موفقة (غير مقنعة)، والوقوع في مبالغاتٍ لا تتيسّر أسبابٌ وجيهةٌ لها. وإذا كانت بعض هذه المؤاخذات، أو مثلها، يردّها كتابٌ في الصحافة الفنية العربيّة إلى الحاجة الضاغطة لثلاثين حلقة (مسلسلنا هنا 31 حلقة!)، فذلك ما لا ينسحب، تماما، على هذا المسلسل. وما يمكن قوله هنا إن وفاءً أكثر لرواية جمال ناجي كان سيُغني المسلسل عن التورّط في حكاياتٍ فرعية، بعضها مُضجر، وكان سيُسعفه بتماسكٍ أكثر توفيقا، وبإنقاذه من بعض الترهل الذي بدا في النصف الأول من العمل، ما جعله يلهث في الحلقات الأخيرة، من أجل إيصال الشخصيات الرئيسية إلى مصائرها ونهايات حكاياتها، وإلى مفاجآتٍ تتالت في خواتيم قصصها.
محاذير رقابية يمكن أن يعرفها قارئ الرواية بيُسرٍ ربما جعلت المخرج وكاتب السيناريو حريصيْن على تفاديها، وبديا في هذا أكثر حرصا من الإفادة من ممكناتٍ أكثر حيويةً وتشويقا في الرواية، سيما في النهاية الأقلّ إقناعا في المسلسل، والأكثر فنيةً وذكاءً في الرواية. وفي الوُسع أن يسوق مشاهد العمل وقارئ النص كثيرا من مثل هذا الأمر. ولكن ذلك كله لا يخصم من مقادير متعةٍ طيبةٍ تحقّقت في متابعة المسلسل، سيما وأن أداءً لافتا نهض به بعض الممثلين فيه، سلّوم حداد وهيا مرعشلي وعابد فهد ومحمد حداقي مثلا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.