السر في العمارة

السر في العمارة

08 مايو 2019

(ريم يسوف)

+ الخط -
تمرّ من أمامها راكباً، أو راجلاً، فلا تلقي لها بالاً، فهي مجرد عمارة عالية من إسمنت وحديد، وأنهت آخر تفاصيلها بواجهاتٍ من زجاج. تُبرق في عين الشمس لتخدعك بأنها بناية عادية، ليس أكثر، وبأن لا شيء يجعلها مميزةً، فهناك الداخلون إليها والخارجون منها، شأن كل المباني، لا شيء يميزها حتى تسمع اسمها في الأخبار. أصبح إطلاق الأسماء على البنايات العالية موضة هذه الأيام، ولم يكن في السابق من عمارة عالية شاهقة الارتفاع ذات اسم إلا عمارة واحدة، ميّزها أبناء المدينة؛ لأن صاحبها من الأثرياء، ولم يُرزق بولد، فسميت العمارة باسمه، مثل أن تنادي شخصا بكنيته، فهذه يعرفها الصغار والكبار والسائقون والتجار، حين يدفعون ببضائعهم المكدسة نحو المحال في الطابق الأرضي منها. غير ذلك لم يكن باستطاعتك أن تسمع عن اسم لعمارة، حتى بات ذلك موضةً حديثة، وتفنن أصحاب المشاريع الإنشائية في اختيار أسماء العمارات، مثل عمارة الهناء والسرور. ولكن ذلك لم يمنع أن يطلق اسم شخص أو عائلة على بناية عالية، تضم شققا سكنية ومحالَّ تجارية ومؤسسات وعيادات. وعلى الرغم من ذلك، هي مجرد عمارة تمر عنها ولا تقف.. حتى يستوقفك اسمها في الأخبار، وتسترجع صورتها في مخيلتك، وتتساءل في نفسك ألما وحسرة: ليتني دخلتها وتجولت بين شققها، ورأيت ساكنيها. ليتني خبرتهم لأعلم ماذا شعروا، حين تركوا كل شيء، وفرّوا بأرواحهم. هل سألت نفسك: لو أنك ستترك بيتك قبل أن يهدم على رأسك، ما هو شعورك؟ وماذا ستحمل معك، وماذا ستترك خلفك؟ هذا السؤال الذي كنت أود أن أعرف إجابته، لو عرفت شيئاً عن سكان هذه العمارة التي أصبحت في لمح البصر ركاماً؟
في ذاكرتنا أسماء لعماراتٍ تروي لنا حكايات غريبة عن أشباح وحوادث قتل مثلا، ولكننا لم نسمع عن عمارةٍ تحكي قصصا إنسانية خالصة، حكايات صغيرة قريبة من قلوبنا، لأننا نعرفها، فهي بسيطةٌ إلى درجةٍ يصعب ترديدها، فوراء كل باب مغلق حكاية عادية لأسرة صغيرة. وعلى الرغم من اختلاف الأثاث والديكور الداخلي مثلا، إلا أنها جميعها تحوي أسرةً من أب وأمّ وأولاد. ولذلك لنا أن نتوقع ماذا يملك هؤلاء جميعا، وماذا يملك كل واحد بمفرده، وإلى درجة أن يخطر ببالنا السؤال المهم: ترى ما هو أول شيء فكر بحمله معه كل واحدٍ منهم، حين تلقوا إنذارا سريعا لإخلاء البيت، تمهيدا لقصفه؟ وكيف تحوّل بيت العمر إلى ذراتٍ من الغبار في لمحةٍ من بصر؟ ماذا لو جرّبنا أن ندقق النظر بذرة غبار، وأن نغمض أعيننا ونفتحها بسرعة، لنكتشف المسافة الزمنية لما يطلق عليه "لمح البصر"؟
البيت، ماذا يعني البيت؟ هل هو فقط أربعة جدران وسقف وباب؟ لو كان كذلك لما بكى أي إنسانٍ على بيته، ولحلّ بدلا منه ألف بيت لو توفر المال، أو جاءت الحكومة وقدّمت له بدلا منه على طبقٍ من ذهب، فأصحاب البيوت يبكون أكثر من أربعة جدران وسقف وباب، يبكون الذكريات والأمان والدفء والأحلام وسطور المستقبل التي سطرت في غرفة المعيشة.
ماذا علينا أن نتوقع من سكان تلك العمارة التي أصبحت كومةً من ركامٍ في صباح ليلة القصف على غزة؟ هل نتوقع منهم كلماتٍ تدل على شجاعتهم أو جزعهم؟ أتوقع ألّا يجدوا كلاما ولا تعبيرا، ولو تكلموا لباحوا أمام الإعلام عن حيرتهم، وهم يقفون متسائلين عمّا يحملون معهم وهم يهربون. وهل فكروا بعواطفهم، فهرعوا إلى الصور القديمة وصور أولادهم، أم كانوا عمليين، فحملوا أوراقهم الثبوتية، وما يملكون من مال وحلي، أم سيخبرونه بعدد دقات قلوبهم المتضاعفة وهم يفرّون؟ ولذلك، لكل عمارة سرّها الذي يقف أمامه الإعلام عاجزا عن كشفه، فالإعلام يسجّل عدد العمارات المهدمة والصواريخ التي سقطت من السماء، ولكنه أبدا لا يستطيع أن يكشف سر العمارة وأهلها، ومن مرّوا حتى من أمامها وندموا أنهم لم يدخلوها...

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.