التراجع إلى خط الدفاع الثاني..من الشيوعية إلى العلمانية (2/2)

التراجع إلى خط الدفاع الثاني.. من الشيوعية إلى العلمانية (2/2)

23 مايو 2019
+ الخط -
يشدد كتاب منظمة العمل الشيوعي اللبناني "من أجل حزب يساري ديمقراطي علماني.. من أجل حركة ديمقراطية علمانية" على أن "من شروط تجديد دور اليسار واستنهاضه الدعوة إلى العلمانية وبناء قواها الحية" (ص31)، ويرى أن "شعار إلغاء الطائفية السياسية لم يعد الشعار الذي يضع البلد على طريق الإصلاح. لذلك ترى منظمة العمل الشيوعي أن قضية العَلمانية هي المعركة التي تفتح الأفق أمام إمكانية تجاوز ما هو عليه البلد" (ص17). 
العلمانية المستحيلة
أعتقد أن العَلمانية ليست دعوة، بل مشروع سياسي، وهي، في الأساس، مسألة سياسية لا مسألة أيديولوجية أو مسألة دينية، لأنها توجه جهدها السياسي المباشر إلى الدولة وبناء الدولة لا إلى الناس وحدهم. إنها، باختصار، نظام سياسي للدولة يتضمن الحياد أمام الجماعات الدينية وعقائدها، واحترام الحريات، والتعدّد السياسي، والسلوك الذي يتطابق مع المعتقد. والعلمانية ليست فصل الدين عن الدولة ونقطة على السطر. العلمانية ذات مرجعية هي الأخلاق الإنسانية والعقلانية؛ أي أنها لا تستند إلى الدين في مجال الأخلاق. والعقلانية تعني أنْ لا سلطان على العقل إلا العقل، أي أن مرجعية التفكير هي العلم لا الدين؛ فلا يُستند إلى الكتب الدينية في دراسة الأكوان أو التاريخ، بل إلى علوم الفضاء والأركيولوجيا. والعلمانية لا ترفض الدين، بل تحرّره من السياسة. ونقيض العلمانية ليس الإسلام أو المسيحية بل الأيديولوجيات الشمولية التي تريد أن تحوّل عقائدها إلى قوانين، ففي الدول العلمانية يستطيع المسلم مثلاً أن يمارس إسلامه كما يريد، وأن يمتنع عن شرب الخمر، وأن يصوم رمضان، وأن يعتمر غطاء الرأس الملائم له. ولكن لا يجوز للدولة أن تفرض على الجميع قانون منع الخمر وإلزام الجميع بصوم رمضان وإكراه الناس على ارتداء زي محدّد، لأن ذلك يعني خلط الأخلاق الدينية بالقوانين، وهذا هو الاستبداد الديني والسياسي. العَلمانية في لبنان والعالم العربي، على مشروعيتها التاريخية، هي طريدة دائمة للجماعات الدينية المستبدة، وتبدو كأن من المحال تحقيقها في المستقبل القريب، فقد قتل الاستبداد الديني والسياسي عَلمانيين أمثال مدحت باشا (خنقوه في
 سنة 1884)، واغتال عبد الرحمن الشهبندر في دمشق (6/7/1940)، وأعدم أنطوان سعادة في لبنان (8/7/1949)، وشنق محمود محمد طه في السودان (18/1/1985)، واغتال فرج فودة في مصر (8/6/1992). والعَلمانية في لبنان، على رأي ياسين الحافظ، "ليست اتفاقاً بين المسلمين والمسيحيين [ويجب ألا تكون كذلك]، بل هي تجاوز عقلاني للمسيحية السياسية وللإسلام السياسي" (ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، مصدر سابق)، ومن غير الممكن، في المثال اللبناني، وضع غطاء علماني على طنجرة طائفية. ومن المثير للهزء والضحك معاً أن تظاهرات حاشدة سارت في شوارع بعض المدن اللبنانية تأييداً لأردوغان بعد فشل محاولة الانقلاب عليه في سنة 2016. وكانت دوافع تلك التظاهرات مذهبية بالتأكيد، فأي حال هي حال العَلمانية التركية التي تؤجج المشاعر المذهبية في لبنان؟ ومن حُسن حظنا أن الحكومات العربية، إلا أقلها، أُرغمت على الأخذ بجوانب من العَلمانية الجزئية، مثل قانون العقوبات؛ فلا عقوبة إلا بنص. وبهذا القانون الذي سنّته في سنة 1840، نزعت الدولة العثمانية من القاضي الشرعي عقوبة التعزير حماية للمواطنين من تسلط رجال الدين. وأُلغي رجم الزانية إلا في السعودية وأفغانستان وربما في إيران، وانتهى قطع يد السارق، ورُفعت الجزية عن غير المسلمين، وحُرّم الرق، وما عادت الردّة جريمة، ومُنع التسرّي وملك اليمين، وصار التعطيل في الأعياد المسيحية أمراً ملزماً.
لا عَلمانية شاملة في لبنان من غير انتصار العلمانية في المشرق العربي، وفي سورية أولاً. لنختبر، كتمرين ذهني، هل يمكن أن تتحقّق في لبنان مقادير من العلمانية الجزئية، مثل قانون موحد للأحوال الشخصية الذي ينتزع من رجال الدين سلطة التحكّم بحياة الناس؟ وهل يمكن اشتراط عدم السماح بتأسيس الأحزاب والجمعيات على أسسٍ طائفيةٍ أو عرقيةٍ أو إثنية؟ وهل يمكن إلغاء التعليم الديني في مدارس الطوائف، وإلغاء الأوقاف لمصلحة الدولة الراعية؟ ستقوم القيامة وتُسحب الخناجر في ما لو تحوّلت هذه الأسئلة إلى مشروع سياسي.
الاقتصاد والعمال السوريون
من أكثر فقرات كتاب منظمة العمل الشيوعي اللبناني ضعفاً الكلام على الاقتصاد اللبناني، فهو يحلل الاقتصاد لا بأدوات اقتصادية، كالتحليل الكمي أو الرياضي أو الإحصائي مثلاً، بل بالتحليل الوصفي. والتحليل الوصفي كلام عمومي وشحيح، وقلما يعتدّ به في الدراسات العلمية. لنقرأ الفقرة التالية: "هذا الاستطراد لا يرمي إلى تبرئة الاقتصاد الذي كان للبنان قبل الحرب الأهلية المندلعة عام 1975 من الاختلالات القطاعية، والالتواءات البنيوية العميقة، ولا إلى تنزيه لوحة الوضع الاجتماعي اللبناني مثلما تبدت عشية هذه الحرب من الاختناقات الخطيرة التي كانت تهدد فعلاً بتبديد إنجازات التداخل النامي، والوحدة النسبية ضمن النسيج الاجتماعي اللبناني بطبقاته الوسطى والعاملة، الريفية والمدينية. وهي اختناقاتٌ لم يكن من سبيلٍ لتجاوزها إلا على قاعدة تسوية اجتماعية مستنيرة، ذات سلم متحرّك، تقدماً في اتجاه مواكبة الازدهار الاقتصادي وتصليب ركيزته الوطنية – الشعبية الأعم، وتوزيع عوائده على النحو الذي يضاعف من أحزمة الأمان للوضع الاقتصادي – الاجتماعي أمام العواصف الأهلية المضطربة" (ص 48 و49).
يخالف هذا الكلام رغبة المنظمة في إعادة النظر في أدوات التحليل اليساري المتحدرّة من
 ماضي الممارسات الفكرية والسياسية والنضالية (ص 47). ولا يؤدّي هذا الوصف الانشائي إلى أي فهم جديد أو نتيجة علمية ثاقبة، فهو يشبه القول إن "الصحة أفضل من المرض". نعم، الصحة أفضل من المرض، ولكن ماذا يفيد هذا الجواب البدهي؟ أو أن يقول آخر: "الأخلاق الحميدة خير من الأخلاق المنحطّة". طبعاً. تُرى مَن يرفض هذا الكلام؟ أو أن يؤكد غيره أن الصدق أفضل من الكذب. واللافت أن الكتاب يدعو إلى حماية الاقتصاد من المنافسة والتهريب (ص 65)، و"تشجيع الإنتاج الصناعي والزراعي وحمايته" (ص 69). ومع أن هذا المطلب يردّده أي مزارع متضرّر من المنافسة والتهريب، فهو يدل على عدم علمية من يدعو إلى ذلك، لأن الحماية في عصر حرية التجارة والمنافسة الحرّة مستحيلة، فضلاً عن أنها مضرّة في أحيانٍ كثيرة. وهذا كلام يقوله صاحب مصلحة، لا صاحب رؤية اقتصادية. وأي باحثٍ مبتدئ في الاقتصاد يعرف أن فرض الحماية على مجموعة من السلع اللبنانية يستدعي فوراً، وبموجب المعاملة بالمثل، فرض الحماية على السلع المقابلة، فمثلاً لو منع استيراد البندورة الأردنية في موسم نضج البندورة اللبنانية، أو منع استيراد البطاطا المصرية في موسم محدّد، لأقدم الأردن ومصر على منع استيراد سلع موازية من لبنان. الحماية، أَكانت تعني فرض رسوم جمركية عالية، أو منع استيراد السلع المنافسة، ولو مؤقتاً، تضر بقطاع الإنتاج المعد للتصدير. ومن بدهيات علم الاقتصاد، اليوم وأمس، هو المنافسة؛ أي المنافسة بالنوعية وبالأسعار. ومن غير الممكن المنافسة بالأسعار، إذا كانت تكلفة العمل عالية، وهذه هي دروس تجربة النمور السبعة في آسيا. وقد أدت اليد العاملة السورية الرخيصة دوراً مهماً في خفض تكلفة الإنتاج اللبناني، وجعل التصدير متاحاً. وهنا يقع الكتاب في خطيئة ترداد كلام الجرائد اللبنانية، بدلاً من التفتيش عن الأرقام في مظانّها، فيقول "قارب عدد النازحين [السوريين] إليه ثلث سكان المقيمين" (ص61)، أي أقل قليلاً من المليونين. والحقيقة التي يعرفها الباحثون الجديون، لا ذوو الغايات والأهواء، أن عدد النازحين وصل في الذروة إلى مليون ومئة ألف نازح، يضاف إليهم نحو 300 ألف سوري من المقيمين الدائمين أو شبه الدائمين، أي أن المجموع لم يتجاوز المليون ونصف المليون سوري في أوج عملية النزوح التي بدأت في عام 2012. ولكن، ما لا تذكره الصحف وكُتّابها أن أكثر من 500 ألف لاجئ سوري غادروا بين 2014 و 2018 إلى أوروبا ودول الخليج العربي وتركيا، وعاد إلى سورية منذ سنة 2017 أكثر من 180 ألفاً. وعدد السوريين في لبنان اليوم لا يتخطى المليون في أبعد تقدير، بينهم 600 ألف لاجئ فقط، والباقي، أي نحو 300- 400 ألف شخص، هم من العمالة المستوطنة في لبنان، والتي من دونها ستُصاب الحياة الاقتصادية اللبنانية، خصوصاً في الزراعة والبناء والنظافة، بكارثة حقيقية.
يورد الكتاب ما يلي: "أثّر النزوح السوري على قطاعاتٍ متعدّدة من الكهرباء إلى المياه إلى 
البيئة والمواصلات والايجارات والسكن (...)، ولعل الأثر الأكبر زيادة حجم البطالة اللبنانية بالنظر إلى المنافسة الشديد من العمالة السورية وارتضائها أجوراً متدنية" (ص 61). والحقيقة أن المؤشرات العلمية لا تربط معدلات البطالة في لبنان باليد العاملة السورية مباشرة، لأن البطالة في لبنان مشكلة قديمة جداً، ولها أسباب متشعبة، فالعمال السوريون في لبنان لا يمكنهم منافسة اليد العاملة اللبنانية ألبتة في وظائف الدولة، ولا في وظائف القطاع الخاص، كالمصارف والصحافة والتلفزة ومحطات الإذاعة ومكاتب مراسلي الصحف الأجنبية ووكالات الأنباء ومراكز الصيرفة والمؤسسات المالية وإدارة شركات الهندسة، ومكاتب المحاماة والمشورة والمستشفيات والأطباء والمحاسبين القانونيين، وما هو على غرارها. يكاد عمل اليد العاملة السورية ينحصر في قطاع البناء وجني المحاصيل الزراعية في مواسمها، والأعمال الرخيصة التي لا تقترب منها الأيدي العاملة اللبناية في العادة. وهنا، من غير الدّقة أن نغفل العمال الآخرين، كالمصريين والسودانيين والعراقيين والبنغاليين والهنود والفيليبينيين والإثيوبيين الذين يحتكرون العمل في محطات الوقود والمطاعم والمعامل وشركات تنظيف المكاتب والشوارع، علاوة على حراسة المباني وقيادة السيارات الخاصة. وثمة مائة ألف عامل مصري في لبنان و75 ألف سوداني وأكثر من مائة ألف بنغالي و50 ألف هندي و40 ألف عراقي، وأعداد وافرة من الفيليبينيات والإثيوبيات والسريلانكيات اللواتي يعملن في الخدمة المنزلية، وفي المحال التجارية بائعات أو عاملات نظافة. ومهما يكن الأمر، يناهز عدد طالبي العمل اللبنانيين من المستويات العلمية والمهنية المختلفة 160 ألف طالب عمل. إذاً، لو عمل هؤلاء جميعاً سيبقى الاقتصاد اللبناني محتاجاً العمالة السورية.
نعم، ثمّة منافسة مع اليد العاملة اللبنانية في قطاعات محدّدة، وثمّة انعكاساتٌ سلبية للنزوح السوري، ولا سيما في البيئة والمياه والسكن، وهو كلام صحيح، لكن المنافسة تكاد لا تظهر فعلياً إلا في التجارة البسيطة (بيع البسطات) والحِرف كالسمكرة والحدادة والبناء وتركيب بلاط المنازل والأدوات الصحية. ومع ذلك، فالحرفيون السوريون، بارتضائهم أجوراً أقل، يخفّضون تكلفة بناء الشقق السكنية، وإلا لكان على المستثمرين في قطاع العقارات أن يزيدوا على سعر المنزل العادي ما بين 75 و 100 ألف دولار. وتظهر المنافسة التي تعلو أصواتها في كل يوم، وتُخفي معها مقادير من العنصرية والكراهية، في أوساط أصحاب الدكاكين والمطاعم الشعبية ومحلات الحلويات والملابس والأفران الذين يتعرّضون بالفعل لمنافسة حقيقية. خارج نطاق تلك القطاعات المحدودة، الكلام على المنافسة مسألة سياسية في لبنان، وليست اقتصادية. وفي هذا الميدان، قلما يتذكّر أصحاب الأصوات العالية نزوح الأثرياء السوريين والطبقة الوسطى السورية، والأثر الإيجابي الكبير الذي عكسه هؤلاء على الاقتصاد اللبناني. ولعل الركود الكبير الذي يتعرّض له الاقتصاد اللبناني اليوم راجع، في أحد أسبابه، إلى مغادرة أكثر من 600 ألف سوري إلى ديار الله الواسعة، وهؤلاء كانوا يحرّكون الحياة التجارية اليومية، كاستهلاك المواد الغذائية واستئجار المنازل والمدارس والمقاهي... إلخ.
الأثر الإيجابي للنزوح السوري
كان مردود النزوح السوري على لبنان إيجابياً، وسلبياته مقتصرة على قطاعات محدّدة، فقد أفاد تقرير معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance) بأن صافي 
تدفقات رؤوس الأموال على لبنان بلغت 4,9 مليارات دولار في سنة 2013، و 5,2 مليارات دولار في 2014، وكانت معظم تلك الرساميل سورية (النهار، 9/6/2014). وكان معدل النمو في لبنان 1,5% سنوياً في عام 2012، فارتفع إلى 3% في عام 2013 (راجع: تقرير معهد التمويل الدولي في مايو/ أيار 2013)، ثم إلى 4% في سنة 2014. أما التضخم فانخفض من 6,7% في سنة 2013 إلى 2,4 في سنة 2014. (أنظر تقرير صندوق النقد الدولي لسنة 2014). ويؤكّد تقرير مشترك لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR أن رزم المساعدات للسوريين بلغت في سنة 2014 وحدها 800 مليون دولار (النهار، 18/6/2015). وسارت هذه المساعدات على الوتيرة نفسها في السنوات اللاحقة. وبحسب المضاعف الاقتصادي، فإن ضخ 800 مليون دولار من المساعدات يعادل ضخ 1,3 مليار دولار في الاقتصاد. وقد دفع السوريون 420 مليون دولار للإيجارات في سنة 2013، والقيمة نفسها في السنوات التالية (راجع تقرير UNHCR الصادر في 27/5/2014). والمعروف أن ما لا يقل عن 50 ألف منزل جرى ترميمها، أو تهيئتها، لتلبية الطلب السوري على المنازل منذ أواخر سنة 2012 حتى سنة 2015. وقد زادت إيرادات الدولة اللبنانية كثيراً من رسوم الإقامة ورسوم السفر والمعاملات وغرامات الإقامة، الأمر الذي أتاح توظيف أعداد وافرة من اللبنانيين في الأسلاك الأمنية. أما قطاعا الزراعة والصناعة اللذان تضرّرا كثيراً في حرب 2006، ثم في أثناء الحرب في سورية وانقطاع طرق التصدير إلى دول الخليج العربية، فقد تمكّنا من تعويض جزء كبير من الإنتاج بالتصدير إلى سورية التي وجدت في البضائع اللبنانية الراكدة بديلاً عن بضائعها التي دمرت الحرب وسائل إنتاجها. وفوق ذلك، استفادت الجمعيات الأهلية اللبنانية التي نبتت كالفطر، من أموال المساعدات الخارجية المخصصة للنازحين، فنهبت منها ما تيسر لها من السلب والنهب. ولا ريب أن المؤشرات السلبية كثيرة، بيد أن الصورة لا تكون جلية من دون النظر إلى المؤشرات الإيجابية. ومن المؤشرات السلبية زيادة العبء على الخدمات كالكهرباء والماء والصرف الصحي والاستشفاء، غير أن قصة الكهرباء في لبنان وتقنين ساعات التغذية قديمة، وموجودة قبل النزوح السوري بنحو ربع قرن (استهلاك النازحين من الكهرباء تدفعه الدول المانحة). وعلى هذا المنوال، فإن السياحة متوقفة منذ حرب تموز 2006. أما المشكلات المتفاقمة كالنفايات والنهب المنظم لواردات الدولة والمخدّرات وتبييض الأموال والفساد الحكومي وصراع الطوائف وعدم استقرار النظام السياسي فهي أمور لصيقة بالنظام اللبناني، ولا علاقة للنازحين بها.
فصل الخطاب
ورد في كتاب منظمة العمل الشيوعي أن "روسيا قوة إمبريالية" (ص5). ولا أدري على وجه الدقة كيف تكون روسيا دولة إمبريالية، مع أن الاتحاد الروسي هو اتحاد طوعي، نشأ بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ولم تنضم إليه، بإرادتها الحرّة، دول كثيرة ومهمة جداً من دول الاتحاد السوفييتي السابق، مثل أذربيجان وكازاخستان وأرمينيا وأوكرانيا. ولو قال إن روسيا دولة كبرى تريد أن تمارس حضوراً عالمياً يعدل وزنها لتفهمنا ذلك. أما أن يقول إنها دولة إمبريالية فهذا كلام غير علمي وغير صحيح، فأين هي الدول التي تهيمن عليها روسيا رغماً عن 
إرادتها؟ وفي هذا السياق، هل الصين قوة إمبريالية كذلك؟ وهذه المسألة لا يتطرّق إليها الكتاب ألبتة. وجاء في الكتاب: "تضع الدول الكبرى، خاصة أميركا وروسيا، في رأس أولوياتها الدفاع عن أمن إسرائيل ومصالحها في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة" (ص6). ويضيف: "أما روسيا فإن الثابت في سياساتها هو أمن إسرائيل وحقها في الوجود، الأمر الذي يجد ترجمته في ظل تدخلها المباشر في الحرب الدائرة في سورية من خلال التنسيق بين الدولتين وإطلاق يد إسرائيل للتدخل في سورية بذريعة أمنها " (ص101).
أميركا دولة إمبريالية؟ نعم، وليس هذا الوصف جديداً، لأنها تهيمن على دول كثيرة، وتحمي مصالحها بالأساطيل والقواعد العسكرية وتفرض شروطها على الآخرين، وتجعل العقوبات على من يخالفها وسيلة سياسية. أما روسيا، فالأمر يحتاج طريقةً أخرى في التفكير. وليس صحيحاً أن "في رأس أولوياتها" الدفاع عن أمن إسرائيل ومصالحها، بل أولويتها الفعلية هي السعي إلى تأمين أمن روسيا ومصالحها هي قبل غيرها، وإلا لاعتبرنا روسيا دولةً تابعة لإسرائيل، وهذا هراء. وقد كانت الحرب في سورية المدخل الملائم لروسيا كي ترسّخ تطلعها إلى أن تكون دولة كبرى (وليس دولة إمبريالية)، وأن تحمي المصالح الروسية المهدّدة عند تخومها المباشرة (أوكرانيا والقرم)، وأن تؤكد حماية مصالحها في شرق المتوسط. والقول إن الثابت في سياسة روسيا هو أمن اسرائيل كلام تعوزه العلمية. التزام روسيا حق إسرائيل في الوجود صحيح. وهذا ليس جديداً، بل يعود إلى عام 1947 في زمن الاتحاد السوفييتي. لكن روسيا لا تلتزم "حق" إسرائيل في احتلال الضفة الغربية والجولان. وهل صحيحٌ أن روسيا هي التي تطلق يد إسرائيل للتدخل في سورية؟ المعروف أن إسرائيل بدأت التدخل في الشؤون السورية منذ بدايات الأزمة التي تحولت بسرعة إلى حربٍ أهلية، وقبل سنة 2015 حين وصلت روسيا إلى سورية.
تنقسم العلاقات بين الدول إلى مراتب: حلفاء أو شركاء أو عملاء. حلفاء مثل علاقة أميركا
بإسرائيل، وهي علاقة استراتيجية أكثر من وثقى، ومثل علاقة أميركا وبريطانيا. وشركاء مثل علاقة أميركا وألمانيا وفرنسا واليونان. وعملاء مثل علاقة أميركا بدولة بنما أو بورتوريكو أو المملكة السعودية. أما علاقة سورية بروسيا فهي علاقة شراكة. إيران موجودة بقضها وقضيضها في سورية، وهي تتلقى الضربات الجوية الإسرائيلية على مواقعها ولا تفعل شيئاً. فهل هي متفقة بدورها مع إسرائيل، وتطلق يدها في طول البلاد السورية وعرضها؟ المسألة تحتاج حقاً إلى تفكير مغاير. ولا يتورّع الكتاب عن القول إن حركة حماس مصرّة "على ربط القضية الفلسطينية بالمحور الإقليمي الإيراني – السوري" (ص103). رويدكم. لو قيل المحور التركي – القطري لكان في ذلك جانبٌ من الصحة، لكن ما بين سورية و"حماس" ما صنع الحداد. وعلاقة "حماس" بإيران متأرجحة، وقد استقرت أخيرا على الحد الأدنى الذي يلائم "حماس" فلا يلزمها أي موقف، ويلائم إيران في عدم قطع قناة مهمة مع الفلسطينيين، علماً أن أداة الربط، أي الأموال، توقفت أو شحّت كثيراً.
بعد ثماني سنوات على الحرب في سورية التي وصلت إلى ستاتيكو غير ثابت، أي إلى "نصاب" متقلقل، ما برح مؤلفو الكتاب/ التقرير يتحدّثون عن التقسيم في سورية (ص82)، وعن مناطق الصفاء الطائفي التي أوجدها النظام السوري تمهيداً لقيام دويلات طائفية (ص89). وهذا الكلام بعيد عن الواقع سنواتٍ ضوئية، وهو من النوع الذي نقرأه في الصحافة اللبنانية. والتحولات الديمغرافية في سورية (التهجير نتيجة طبيعية في الحروب الأهلية) تخالف فكرة "الدويلات الطائفية" ومناطق الصفاء الطائفي، وترتد على صدقية التقرير نفسه في هذه النقطة، فالجماعات المسلحة هي التي أقامت مناطق الصفاء الطائفي، وطردت من مناطق سيطرتها كل من لا ينتمي طائفياً إليها، ففي اللاذقية حيث الوجود العلوي الكثيف، تدفق عليها وعلى طرطوس أكثر من مليوني سُني من حلب وجوارها، وأقاموا فيها، وأسسوا أعمالاً متنوعة. وهذا الأمر قلب الميزان الديمغرافي للمحافظة، وجعلها مختلطة طائفياً أكثر فأكثر. ولم تنجم عن ذلك مناطق صافية طائفياً إلا في المناطق التي خرجت من أيدي النظام. أما محافظة السويداء التي يشكل الدروز فيها الأغلبية، فقد استضافت ما لا يقل عن 200 ألف شخص من محافظة درعا ومن دمشق وحمص ومن المخيمات الفلسطينية، وهؤلاء جعلوا الأغلبية الدرزية تتعادل عددياً مع السُنّة. طبعاً هذا الأمر مؤقت، والمستقبل مرهون بالتسوية النهائية. وفي أي حال، مناطق الصفاء الطائفي إبداع خالص مسجل لجبهة النصرة ومنظمة داعش، ومعها مخلوقاتها العجيبة ومشتقاتها الغريبة من عيار "جيش الإسلام" و "أحرار الشام" و"أحفاد الرسول" و"الزنكيون" و"أبابيل حوران" و"أنفال بيت المقدس" وغيرها. ومهما تكن الحال، فإن الكلام على "مناطق صفاء طائفي تمهيداً لقيام دويلات طائفية" يثير التندّر لدى من يعرف تفصيلات ما يجري في سورية، فمدينة دمشق ليست منطقة صفاء طائفي، ومثلها حمص وحماه وحلب. ومَن يريد أن يوجد مثل هذه المناطق فعليه أن يبدأ من العاصمة. وهذا محال. ومَن لا يستطيع أن يحتفظ بدمشق لا يمكنه أن يحتفظ بأي دويلة طائفية في أي مكان في سورية. ومَن يُهزم في دمشق يُهزم في سورية كلها. وفصل الخطاب في هذا الحقل الخلاصة النهائية لهذا الكتاب (ص 90) "إن وقف الحرب التدميرية وبقاء سورية موحدة بالحد الأدنى هو أقل الحلول سوءاً، بصرف النظر عن اسم الحاكم أو شركائه في السلطة".