التحديق بالموت

التحديق بالموت

25 ابريل 2019
+ الخط -
هناك طفرة جسور لتأويل هاجس الموت عند أحد أهم مترجمي وباحثي فكر محيي الدين بن عربي، وهو المفكر الاستشراقي الأميركي، وليام تشيتيك، والذي كتب مؤلفا يقارب فيه مسألة "عوالم الخيال: ابن عربي ومسألة التنوع الديني". ويطرح من خلاله جملة من البراهين على اتصالية الموت بعالم الخيال، وأن معظم تعاليم الصوفية هي خروج عما يسميه بالإسلام التقليدي.
ولا غرو فقد اتكأ، وليام تشيتيك، في تفسيره لهذا الاتجاه الفلسفي الصوفي على نظرية ابن عربي القائلة باستحالة إفراز الفهم الحقيقي للوحي الإسلامي لمن لم يعرف مرتبة الخيال الوجودية. وهو ما يؤكده قطعا في الفصوص قائلا "لا موجود ولا معدوم ولا مجهول ولا منفي ولا مثبت".
إذا استجبنا محتملين قوة إدراك الموت الخيالي، بالمعنى الأنطولوجي، على خلفية كون الخيال المراد عند ابن عربي وغيره هو الواقع ما بين الجسماني والروحاني وهو"البرزخ"، فإن التقاطع بينهما يحدث عند مغادرة عالم الغيب إلى عالم الشهود، والعكس صحيح، حيث يحتمل أن يخيل العبور إلى منطقة الخيال. ولهذا يكون الاعتقاد بتقريب صورة الملائكة في المخيال موقوفا بالنظر الاعتباري للصور الحسية المنقولة من النص، كمثل رؤيا الأولياء التي يختبرونها روحانيا، ويتخطونها لتصبح أرواحا مجردة.
وأقصى هذه الخيالات ما رواه ابن عربي نفسه أن النبي رأى ربه في صورة شاب، كون الخيال يجسّد ما ليس من شأنه أن يكون جسدا.
ومن أجمل ما قرأت له في هذا الشأن: إنما الكون خيال/ وهو حق في الحقيقة / والذي يفهم هذا/ حاز أسرار الطريقة.
من مات عن هواه فقد حي بهداه.
حتمية الموت هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن تصديقها على حالة الغليان التي ترزح تحت نيرانها فلسفات اللامعنى والإلحاد الديني، والتصنيفات الأخرى للتفكير. وما عداه يظل مجرد كوابح أو قضبان سجنية لمن يريد التحلل من وظيفته الوجودية وسؤاله في الخلق الكوني ونظامه القيمي.
الموت أكبر التئام للنفس قبل صعودها، وأعلى قيمة للحرية بعد انقضائها. وما أبلغ باروخ سبينوزا وهو يصف هذه الوقفة، كون العقل البشري لا يمكن تدميره بصورة مطلقة مع الجسم. لكن ثمة شيئاً خالداً يبقى منه، وهي نفس الإحالة على ارتقاء الوجود الآخر إلى حياة أعذب وأبهى. يقول ديكارت: "أعتقد أنني أعرف بوضوح بالغ أن الأنفس تبقى بعد الجسم، وأنها قد ولدت من أجل ضروب للفرح والغبطة أعظم كثيراً من تلك التي نتمتع بها في هذا العالم، وأنني لا أستطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون إلى حياة أكثر سلاماً وعذوبة من حياتنا، وإننا سننضم إليهم يوماً ما، حاملين معنا ذكريات الماضي، ذلك لأنني أتبين فينا ذاكرة عقلية من المؤكد أنها مستقلة عن الجسم".
إنها نفس وحدة الاعتقاد الصوفي، حيث الموت هو الحجاب عن أنوار المكاشفات والتجلي وقيل هو قمع هوى النفس، فمن مات عن هواه فقد حيي بهداه.
"ينبغي ألا نرهب الموت".. هذه الحكمة الأبيقورية تكاد تنزوي في الملاذ النائي عن كل ظن إنساني! كيف بالموت أن يكون مرهوبا بحدسنا، بوجوديتنا النبيلة؟
ذلك أن الغاية من الفكرة أساسا الوصول للحياة السعيدة والمطمئنة. إذن لا بد وأن التخلص من الخوف وتغييب الألم والاكتفاء الذاتي محاطين بالأصدقاء، سيبدد الرهان على تفويت فرصة للموت كي يكون مستبدا وحاقدا!؟
فما بالك إذا كانت نهاية الجسد والروح مربوطة بالتمادي مع حتمية الموت، عبر تقليص حدة الاضطراب والتغول والمواجهة.
المفاهيم الأبيقورية تتعالى مع كل المفاهيم الفلسفية المصيرية، بل إنها تجسد رؤية فاخرة ومستنيرة، حيث يصير عنوانها الأبدي الإفضاء بوجود قيم ما ورائية هي مآلية الارتقاء بالحياة إلى مدارج أكبر من قيمة الزمن ومشاغله. ومن تلك المفاهيم المحددة للكينونة والترقي الوجداني والروحي الإيمان بثمانية حقول معرفية: لا تخف من الآلهة، لا تخف من الموت، لا تخف من الألم، عش ببساطة، ابحث عن المتعة بحكمة، اعقد صداقات، وابحث عن أصدقاء، وكن حسن المعاملة، كن مخلصا في حياتك وعملك، ابتعد عن الشهرة والطموح السياسي.
412DFADA-BED9-4D16-B7DF-1DAE6BA919DF
412DFADA-BED9-4D16-B7DF-1DAE6BA919DF
مصــطفى غَــلْمَـان (المغرب)
مصــطفى غَــلْمَـان (المغرب)