بيرزيت تؤبّن اليسار الفلسطيني

بيرزيت تؤبّن اليسار الفلسطيني

23 ابريل 2019
+ الخط -
لو أن للمفردات صوتاً مسموعاً، وكان لهذه المطالعة فم ولسان وعينان، لغصّت حروفها في الحلق، واكتسى جرْسُها بنبرةٍ من الأسى والأسف، على ما آل إليه حال اليسار الفلسطيني في الآونة الأخيرة، من تراجعٍ مريع، وما أصاب مكوّناته من هُزال شديد وسَقَم مديد، حيث تجلّت مظاهر الخواء دفعة واحدة، وحدث ما حدث في مناسبةٍ بعينها، وقعت داخل جامعة بيرزيت أواخر الأسبوع الماضي، ودوّى صداها في أماكن أبعد من أسوار أعرق الجامعات الفلسطينية. 
ولا أحسب أن الحديث عن هذه المسألة المحرجة يطيبُ لأي مثقفٍ وطنيٍّ تقدمي ديمقراطي. وبالضرورة لا ينطوي سياق هذا النقد إذن على شماتة، أو تشفٍّ، إذ إن وطأة الصدمة بالنتائج الانتخابية الكارثية لقوائم اليسار الطلابية، وما كشفت عنه المنافسة من مخرجاتٍ بائسة، يقتضي الكفّ عن المجاملات التقليدية، ويتطلب إجراء المكاشفة العاجلة، والتعاطي مع الحقيقة العارية كما هي، لعل ذلك يدفع الرفاق إلى إجراء المراجعة المطلوبة، إذا كان لديهم متسع، وكان في الوقت بقية.
لاعتباراتٍ عديدة يطول شرحها، تحظى انتخابات جامعة بيرزيت بأهميةٍ استثنائية، ومتابعةٍ حثيثة، تفوق كثيراً درجة الأهمية التي تنالها انتخابات أي جامعةٍ فلسطينيةٍ أخرى، كما ظلت النخب السياسية والفصائل ووسائل الإعلام تنظر إلى هذا التمرين الانتخابي السنوي الديمقراطي المنتظم على أنه أحد أكثر المعايير صدقية، لقياس الأوزان السياسية، وتوازنات الخريطة الحزبية، والتعرّف بصورة تقريبية على مدى الشعبية التي تتمتع بها القوى المتنافسة على قيادة السفينة العالقة في برزخ الاحتلال ودوامة الانقسام.
ومع أن المشهد الانتخابي في جامعة بيرزيت كان يبعث على الاعتزاز بتقليدٍ ديمقراطيٍّ راسخٍ في الحياة الطلابية (في الضفة الغربية حصراً)، وقد نال ما نال من تعليقاتٍ وتغطياتٍ صحافية واسعة، إلا أن وراء هذا المشهد الباهر كانت تتوارى صورةٌ أخرى مؤسفة، لم تأخذ حقها من المتابعة، نعني بذلك فشل اليسار في الحفاظ على ماء الوجه، وإخفاقه في تبرير خطابه، بل وفي تسويق ذاته صاحب خيارٍ ثالث، وربما بديلاً محتملاً لكل من التيار الوطني والاتجاه الإسلامي.
كنا نعلم سلفاً أن أحوال جبهة اليسار التي أعلنت، قبل فترة وجيزة، عن تحالف ديمقراطي جامع، لا تسر أبداً، وقد تأكد ذلك حين تباينت مواقف مكوّناتها من حكومة محمد اشتية، وذهب كلٌّ في طريقه، غير أنه حين أخفق هذا التحالف، مجدّداً، في اجتياز امتحان بيرزيت بصورة منسّقة، وحصد من ثمّة هذه النتيجة القاسية، فإن من غير المستبعد أن يصبح اليسار الفلسطيني أثراً بعد عين، وأن يدخل إلى أرشيف الذاكرة الوطنية، شأنه شأن اليسار العربي والعالمي الذي كان قد بدأ رحلة التآكل التدريجي البطيء من قبل.
قد يكون من المبالغة القول إن انتخابات جامعة بير زيت، التي جرت على هواء البث المباشر، تعكس توازنات القوى المُمسكة بتلابيب النظام السياسي الفلسطيني، أو إنها تُشكل أداة قياس صحيحة لترجيح هذا الفصيل على ذاك، إلا أن من المتفق عليه، على نحو واسع، أن هذه الانتخابات النزيهة حقاً تؤشّر على مزاج عام فلسطيني سائد في لحظة معينة، الأمر الذي أظهر مدى شدة حالة الاستقطاب المزمنة من جهة، وكشف، من جهة ثانية، هشاشة عظام القوى اليسارية، ناهيك عن غيابٍ شبه مطلق لفصائل ومنظمات تاريخية، لم يعد لها سوى الاسم فقط.
ولعل من بين أهم المفارقات التي حفلت بها انتخابات طلبة بيرزيت ترحيب حركة حماس، التي تمنع إجراء أي شكل من الانتخابات تحت سلطتها في غزة، بالنتائج التي تحقّقت لها على أرضية سياسية غير مواتيةٍ لها، وإشادة الحركة المجاهدة بالعرس الديمقراطي، الجاري سنوياً في ديار خصومها، حتى أن أحدهم قال، وهو يرسل تهنئته القلبية من القطاع المحاصر، إن حركته متمسّكة بالخيار الديمقراطي، الأمر الذي بدا وكأن هناك زلة لسان غير مقصودة، حتى لا نقول نكتة، لا سيما أن قمع حراك "بدنا نعيش" لم يسقط بعد من الذاكرة الغضّة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي