بديهية جامعة الزيتونة

بديهية جامعة الزيتونة

02 ابريل 2019

جامعة الزيتونة في تونس ..

+ الخط -
لم تصنع جامعة الزيتونة في تونس معجزةً علميةً مشهودة، عندما رفضت، بكل احترام (كما قال رئيسُها) طلب الرئاسة التونسية منها أن تمنح ملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، شهادة الدكتوراه الفخرية في الحضارة العربية الإسلامية، وإنما زاول مجلسُها، في هذا الرفض، مسلكا بديهيا، وبالغ العادية، تتّبعه الجامعة منذ قامت قبل أزيد من ستين عاما (وإنْ تعود إلى القرن الثامن الميلادي). ولكن، بالنظر إلى أن جامعةً أخرى في تونس استجابت، بسرعةٍ على ما يبدو، لطلبٍ مماثلٍ من الرئاسة، فمنحت الملك الشهادة الهديّة، وأن جامعاتٍ عتيدةً في غير بلدٍ عربي تسارع إلى تلبية طلباتٍ كهذه (جامعة القاهرة منحت الملك سلمان الدكتوراه الفخرية في 2016)، فإن ما بادرت إليه جامعة الزيتونة يصبح صنيعاً استثنائياً، ويستحقّ الاحتفاء الذي حظي به، سيما وأن رئيس الجامعة، هشام قريسة، حرص على إيضاح المسألة وحدودها، أن عدم تلبية طلب رئاسة الجمهورية ليس مقصودا به الملك سلمان في شخصِه، وإنما الأمر، أساسا، هو الحفاظ على حياد الجامعة، سيّما وأنها تمنح شهاداتها لأهل العلم فقط، ولم يسبق لها أن منحت أيا من هذه الشهادات (أو الشهائد، بحسبِه) لأي أحد، بل إنها، منذ استقلال تونس، لم يحدُث أن تلقّت طلبا مثل هذا.
ويستحق مجلس جامعة الزيتونة، التقليدية الرجعية بحسب نعوت تنويريين من الصنف إياه، ثناءً مضاعفا، عندما يزيد الرئيس قريسة إيضاحَه بالتشديد على الوظيفة العلمية للجامعة، وبأنه لا يجوز أن تكون المؤسّسة الجامعية لعبةً للرؤساء أو الملوك. ولأن الأمر ليس له أن يُحمَل على غير هذا النحو، فإن تطويق الرئاسة التونسية واقعة "الزيتونة" التي أخذت اهتماما فائضا في "السوشيال ميديا" بالطلب من جامعة القيروان (أو الضغط عليها؟) منح الملك سلمان الدكتوراه الفخرية، يعد تجرّؤا منها على المؤسسة الأكاديمية. وفي قبول هذه الجامعة، الحديثة والحداثية كما توصف (أنشئت في العام 2004) هذا الطلب خروج عن مبدأ الاستقلالية الذي يعتبر استحقاقا جوهريا لمؤسسات التعليم والمعرفة، وإن سوّغت "القيروان" فعلتها بتمويل العربية السعودية مشاريع في الجامعة والمدينة. ولكن، ثمّة أوجهٌ أخرى لشكر الملك على شيءٍ كهذا، "فللدولة التونسية طرقٌ أخرى لتكريم ملك السعودية"، كما قال قريسة محقّا.
ومع صحة البديهية المعلومة أن شهادة الدكتوراه اعتباريةٌ ومعنويةٌ، وليست علميةً بالطبع، إلا أن لها رمزيتها الشديدة الأهمية، والتي تتعلق بمكانة الجامعة واحترامها نفسَها، وحفاظها على التقاليد الأكاديمية والأعراف المتصلة بخدمة المجتمعات والأمم. ولذلك، ليس أمرا خافي الدلالة أن نحو عشرين شهادة دكتوراه فخرية أعطي أغلبها للملك سلمان (بعضُها إبّان كان أمير الرياض) من جامعاتٍ سعودية، وأخرى من جامعاتٍ مصرية وروسية وصينية ويابانية، ولا تُلحظ واحدةٌ منها من جامعة أميركية أو أوروبية لها وزنٌ معلوم. والظاهر أن الرئاسة التونسية، في غِبطتها الواسعة بزيارة الملك، أرادت تنويعا مقصودا لذاته في مظاهر الحفاوة به، لعلها بذلك تحجُب عن أبصار الضيف (ومرافقيه الألف!) ما واكب الزيارة من مظاهر احتجاجٍ شعبيةٍ عليها (وإنْ محدودة)، أتت أصواتُ المشاركين فيها (مسيرات وحملات إلكترونية و..) على السياسة السعودية، وعلى أفاعيل ولي العهد، محمد بن سلمان، ولم تُغفل اليمن وجمال خاشقجي والذيْلية لأميركا. الظاهر أن الرئاسة التونسية قصدت إيحاءً بأن ضيفها الملك موضعُ احتفاء من مؤسساتٍ في البلاد، غير رسمية تماما. وما اتضح، بعد الفعل المقدّر، والكبير الأهمية والقيمة الذي بادرت إليه جامعة الزيتونة، أنها تورّطت في مغامرةٍ غير محسوبة، كان من نواتجها ما لوحظ من سوقيةٍ في لغة سعوديين تطاولوا على الجامعة بقلة أدب، في "تويتر" مثلا.
أيا كان الحال، دلّت واقعة جامعة الزيتونة، والدكتوراه الفخرية المرفوضة منها، على أن شرفاء في الأمة قادرون على أن يقدّموا الأمثولات المضيئة. ودلت واقعة جامعة القيروان، والدكتوراه الفخرية الممنوحة منها، على أن مهمة أولئك الشرفاء ليست هيّنةً أبدا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.