من تجربة الحرب الفيتنامية

من تجربة الحرب الفيتنامية

05 مارس 2019
+ الخط -
من موقع الأحداث في أكثر النقاط شهرة للمقاومة الفيتنامية ضد الغزاة الأميركان كان أول أهداف رحلتي إلى فيتنام.
قطعة من الأرض تغطيها الأحراش وتبعد 50 كيلومتراً عن سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية، والتي أصبح اسمها هو شي منه بعد انتهاء الحرب وتوحيد شطري فيتنام.
يسير بنا دليل سياحي شاب من أهل المكان، يستعرض أهم معالم المكان، ويستدعي معه ذكريات حرب استمرت قرابة العشرين عاماً، وانتهت أحداثها منذ أربعة وأربعين عاماً، ولكنه يستعرضها كما لو كانت حدثت بالأمس، فمعلوماتها حاضرة في ذهنه وملتهبة في مشاعره وهو يشرحها في زهو وفخر ببطولات قومه.
استخلصتُ من حديثه وما شاهدته صدق الأسطورة الإغريقية التي تقول: (إنه كان يوجد بطل عظيم لم ينهزم أبداً في أي نِزال، فذهب أقرانه إلى حكيم من حكماء البلدة طلبا للنصيحة، فقال لهم: إنَّ سِرَّ قوته يكمن في تثبيت قدميه على الأرض وتشبثه بها، وما دامت قدماه ثابتتين على الأرض فلن يستطيع أحد هزيمته، وأنصحكم أن تحتالوا عليه ليرتفع بقدميه ولو قليلا عن الأرض لكي تستطيعوا إصابته في مقتل).
وللأسطورة مغزاها العميق، في ارتباط المقاتل بالأرض، وفي بعدها الفلسفي أن يكون واقعياً بمعنى استثماره لكل معطيات الواقع لتحقيق طموحاته. هذه الحكمة وجدتها أمامي رأي العين في تلك الملحمة الإنسانية التي صنعها أهل كو تشي في صدهم الغزو الأميركي.
باطن الأرض صار حُضْناً وحِصْناً ومخبأً لهم عبر شبكة معقدة من الأنفاق، تصميم شبكة الأنفاق مستوحىٰ من العروق الطبيعية المرسومة على ورق الشجر، أعواد البامبو تتحول أحيانا إلى حِراب يفوق تأثيرها حراب الحديد، وتتحول أحيانا أخرى إلى أداة لحفر الأنفاق والآبار، وتتحول أحيانا إلى أسلحة ثابتة داخل حفر مموهة لاصطياد المقاتلين الغزاة، تضاريس الأرض وتشكيلها وحُفَرُها جزء أصيل من خدع الحرب لاصطياد الجيوش الغازية، نهر "ميكونج" وأحراشه مهرب يتصل به نهاية الأنفاق، ما ينبت من الأرض هو فقط غذاؤهم، وما يجري في الأنهار والآبار من ماء هو مصدر شربهم، ومن أعواد البامبو وألياف شجر جوز الهند يصنعون بيوتهم.
باختصار؛ حياتهم هي أرضهم، وما تحويه هو مصدر كفايتهم، وتوظيف مواردهم هو سر صمودهم في معركة البقاء.
وقف بنا الدليل أمام مدخل أحد الأنفاق، فتحة المدخل ضيقة جدا ومغطاة بقطعة من الخشب مغطاة بورق الشجر الجاف لتبدو كأنها جزء من الأرض، ثم أتاح الفرصة لمن يريد أن يجرب دخول النفق من تلك الفتحة الضيقة فبادرت بالتجربة.
إنها بالكاد تسع أمثالي من أصحاب طول 177 سم، ووزن 77 كيلوجرام، والسر في ضيق تلك الفتحة هو تناسبها مع أحجام أجسادهم النحيلة الخفيفة وصعوبتها على أجسام الأميركان الضخمة.
تحولت شبكة الأنفاق مع الوقت إلى مدينة تحت الأرض تحتوي على ثكنات عسكرية وغرف عمليات ومستشفيات ومعيشة كاملة، ووصل بعضها إلى ثلاثة طوابق تحت الأرض.
انتقل بنا الدليل لتجربة أخرى؛ وهي السير داخل تلك الأنفاق، طلب من أصحاب القلوب الضعيفة وأمراض التنفس الإحجام عن خوض تلك التجربة.
قررت خوض التجربة، فقد كان لي تجربة سابقة في السير داخل نفق الحياة الذي بناه المقاتلون البوسنيون في صد عدوان الصرب في زيارتي لها عام 2015، ولكن شتان بين التجربتين؛ نفق الحياة كان ارتفاعه حوالي متر ونصف وعرضه أكثر من متر بقليل، بمعنى أن الإنسان الطبيعي يسير فيه منحني الجذع، ولكن عرضه مريح، وجوانب النفق مدعمة بقوائم خشبية، وخطوط سيره مستقيمة.
الحال هنا مختلف تماماً؛ فارتفاع النفق لا يتجاوز سبعين سنتيمترا وعرضه بالكاد سبعون سنتيمترا، بمعنى أنك لا تستطيع السير إلا في وضع القرفصاء، وأثناء السير بهذا الوضع يحتك كتفاك بجدار النفق، أضف إلى ذلك أن النفق لا يسير في خطوط مستقيمة بل متعرجة..، وضع بالفعل في غاية المشقة والصعوبة. ولكنها المقاومة وضريبة الدفاع عن الأرض والعِرْض.
إنها ملحمة شعب أراد الحياة الحرة ورفض الاستسلام لمعادلات القوة المعروفة بين البشر، فاحتضنته أرضه وقاتلت معه، ووضع هو قواعد للنصر لا ترتبط بموازين القوى، بل ترتبط بإرادة النصر والإيمان بعدالة القضية، وكانت كلمة السر ومفتاح النجاح هي ما نطق به دليلنا السياحي، حيث قال: مع فارق القوة البعيد لم نكن نهاب الأميركان، وذلك لسبب بسيط: أننا لم نكن نهاب الموت.
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر