هذا المؤتمر للعلوم الإنسانية والاجتماعية

هذا المؤتمر للعلوم الإنسانية والاجتماعية

26 مارس 2019
+ الخط -
ربما لا يصادف معلقٌ متعجلٌ، في صحافةٍ سيّارة، ما يلتقي مع اهتماماته العامة، في كثير من أوراق ودراسات 72 أكاديميا وباحثا عربيا، طرحوا خلاصاتِها، ونوقشت معهم، في 36 جلسةٍ في ثلاثة أيام، لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية في دورته السابعة، والذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، واختتم أعمالَه في الدوحة أمس. ربما ذلك، سيما وأن الموضوع المركزي للمؤتمر شديد التخصص، هو "إشكالية مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية"، وسيما أيضا أن أمزجة أهل الأكاديميا مختلفةٌ عن أمزجتنا، نحن العاملين في الصحافة السريعة. ..
ولكن، مع ذلك كله، إذا ما تنقّل هذا المعلق المتعجّل، بين جلسات المؤتمر في مساراته الأربعة، في قاعات المركز ومعهد الدوحة للدراسات العليا، واستمع إلى بعض المحاضرين والمناقشين والمعقّبين، سينشدّ، لا ريب، إلى حيويةٍ ظاهرةٍ سيُصادفها، تشفّ عنها روح المناقشات، والأخذ والرد مع معدّيها، بل سيجد نفسَه منجذبا إلى مقارباتٍ متنوعةٍ طرحتها أوراقٌ كثيرة، في شؤون راهنٍ فكريٍّ وسياسيٍّ واجتماعي عربي عريض. وسيرى هذا الصحافي، إذا ما تخفّف من مسبقاتٍ ربما تقيم في مداركِه عن أهل الدرس الاجتماعي العرب، أن أسبابا للغبطة والبهجة ستغشاه، وهو يلاحظ أن شبّانا عربا، من جيلٍ جديدٍ من الأساتذة في الجامعات ومعاهد المعرفة العربية، يطرحون اجتهاداتهم وتصوّراتهم في موضوعات فكرية واجتماعية، منهجيةٍ وعلميةٍ، نظريةٍ وعملية، بزمالةٍ، في المؤتمر نفسه، مع أساتذة أسبق، شيوخٍ عتيدين في قاعات التدريس. وفي الوسع أن يقع واحدُنا، في هذا المشهد، على ما يبعث على تفاؤلٍ كثير، سيما وأن أسماء شابة، تواصل تحصيلها العالي في العلوم الاجتماعية، تشتبك في مساءلة الظواهر والأفكار والنظريات، وتنشط في تحليل وقائع ومعطيات قائمة، بروح الاجتهاد، والإخلاص للعلم، وبنديّةٍ مع آخرين.
ربما جاز سؤالٌ عن السبب الذي جعل موضوع "إشكالية مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية" يتأخر إلى الدورة التي اكتملت أمس لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية الذي بات ينظمه المركز العربي كل عامين، بعد أن كان سنويا (عقدت في الدوحة ومراكش وتونس..). وربما جاز الظن أن موضوعا كهذا ربما كان من الأنسب لو اختصت به مؤتمراتٌ سابقة، سيما وقد سبقته موضوعات الاندماج الاجتماعي والأخلاق والحرية والشباب العربي والمدينة العربية (وغيرها..). ولكن، لعله التناوبُ بين النظري التجريدي وأسئلة الواقع والراهن وقضاياهما هو ما استدعى هذا الأمر. والحديث هنا إنما عن "علومٍ اجتماعيةٍ وإنسانية"، أي ثمّة ما هو علمي تماما، يبقى في حاجةٍ إلى اختبار نظرياته وكشوفاته وطرائق التحليل والتوصيف التي يتوسّلها، وثمّة ما يتعلق بحالاتٍ أو ظواهر اجتماعيةٍ ماثلة أو متحولة. ولا تزيّد في الزعم هنا إن نحو  670 ورقة وبحثا ودراسة ومحاضرة نوقشت في المؤتمرات السبعة، وتنوّعت موضوعاتُها وكيفيات مقارباتها، تمثّل، في مجموعها، تحت مظلة مؤسسةٍ بحثيةٍ رفيعة، هي المركز العربي، ذخيرةً معرفيةً مهمة، راكمت إسهاماتٍ طيبةً في الدفع بمستوى البحث الاجتماعي في الأكاديميا العربية. ومؤكّدٌ أن أهل الاختصاص في هذا الشأن أعلمُ بمنزلة هذا المستوى من صاحب هذه الكلمات. ومؤكّدٌ أيضا أن انتظام المركز في مكافأة أبحاث ودراسات متميزة (متنافسة) بجوائزه في دورات المؤتمر يضاعف من قيمة هذا الدفع، ومن أهمية تأثيره في سيرورة هذا النشاط العلمي العربي.
ولعلها مفارقةٌ ظاهرةٌ أن يختصّ مؤتمر هذا العام بموضوعة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فيما أوراقٌ غير قليلةٍ فيه تحرّرت من الاستسلام المسبق لمناهج محدّدة، الأمر الذي ربما يتّسق مع إحالة المؤتمر نفسِه إلى "إشكاليةٍ" مطروحة، كما في عنوانه، ويتّسق مع تشديد الكلمة العامة للمؤتمر على التفكير بصورةٍ "عقلانيةٍ نقدية". كما أن الأنثروبولوجي المغربي، عبدالله حمودي، استمعنا إليه يقول، في المحاضرة الافتتاحية لليوم الأول، إن على أي بحثٍ جدّي أن يكيّف منهجه مع طبيعة الظواهر التي يقوم بتحليلها. وجاء جديدا، ومفاجئا ربما، تشديد المفكر العربي، عزمي بشارة، على أولوية الفهم على المنهج.. وإلى هاتين الخلاصتين، ثمّة كثيرٌ جاذبٌ يمكن أن يُصادفه معلقٌ متعجلٌ، في المؤتمر المتخصص، فينشد إليه، ويُدهشه.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.