عيد ست الحبايب

عيد ست الحبايب

23 مارس 2019

(أسامة دياب)

+ الخط -
امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية، بصور نشرها روّاد هذه المواقع احتفالاً بعيد الأم. صور أمهاتهم، على قيد الحياة، أو رحلن. صورهن شابات، أو وهنّ في مراحل حياتهن الأخيرة. صورهنّ الراهنة، أو ربما صورهن المتخيلة عبر ما كتب أبناؤهن عنهن! امتلأت صفحات التواصل أيضاً بكلمات وجمل شاعرية في وصف الأمهات ومديحهن. قصائد وحكم قديمة عن الأم، أحاديث شريفة وسور من القرآن الكريم، ذكريات شخصية عن العلاقة بين الأبناء والأمهات، أزواج يعايدون زوجاتهم بعيد الأم، بوصفهن أمهاتٍ عظيمات، حتى ليكاد الأمر أن يكون مسابقة بين الجميع: من هو الأكثر قدرةً على وصف معنى الأم، ومَن مِن الأبناء هو الأكثر برّاً بوالدته!
في الوقت نفسه، يستخدم المعلنون والتجّار والمحطات الفضائية العربية مناسبة عيد الأم لعرض سلعهم، تحت عنوان هدية ست الحبايب، مستعينين بأغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة "ست الحبايب يا حبيبة" بصوت فايزة أحمد، حتى لنظن أنه لا معنى لهذه الأغنية بغير دعايات الحلل والأطباق والأدوات الكهربائية وأدوات المطبخ والغسيل، حتى لنظن أيضاً، كما علّق أحدهم، أن هذا اليوم هو يوم الخادمات لا يوم الأمهات، إذ يروّج هؤلاء عبر ترويج السلع بأن مكان الأم هو المنزل، وعملها هو التنظيف والطبخ والعناية بباقي أفراد الأسرة. وهذه نظرة فيها من الأصولية الاجتماعية بقدر ما فيها من الاستعلاء الذي يمارسه منتجو مستحضرات التجميل العالمية أو دور الأزياء أو المعلنون عموماً، تجاه المرأة، حين يتم تنميطها في صورة وحيدة، المرأة الرشيقة النحيلة الأنيقة، التي لا دور ولا همّ لها في الحياة سوى إغواء الرجل بكل الطرق الممكنة.
إنه زمن استهلاك كل شيء، زمن الإعلان بكل ما في منظومة الإعلان من سحب للقيم الأخلاقية والإنسانية من كل شيء، زمن التقديس والتسطيح في الوقت نفسه، حيث لا حالة طبيعية، ولا بشر عاديون، ولا حياة عادية. يبدو الأمر وكأن الجميع في سباقٍ ما، لا أحد يعرف على ماذا، ولا متى بدأ، ولا متى ينتهي.
جميعنا نحب أمهاتنا، كل منّا حسب طريقته في الحب، وأيضاً حسب علاقته بها، لكنّ أحداً لا ينتبه إلى مدى الأثر الذي تتركه العلاقة مع الأم في اللاوعي الفردي، وهو ليس دائماً أثراً إيجابياً، وحتماً لا يمكن أن يكون سلبياً بالكامل. هو أثر مزيج بين الحالتين، إذ لم نكن يوما مجتمعاتٍ صحّيةً لتكون العلاقة بين الأهل والأبناء، والأم وأولادها خصوصاً، صحّية. نحن مجتمعاتٌ مريضةٌ منذ تكوينها الحديث نسبياً، مجتمعاتٌ مقموعةٌ وقامعة سياسياً واجتماعياً، فاقدةٌ مفهوم الحريات الفردية الذي يتيح للفرد أن يتكون شخصاً سليماً نفسياً وعقلياً. ومن ثم، يكون سلوكه تجاه الآخرين سليماً أيضاً. الآخرون، بمن فيهم الأبناء، أو ربما أكثر من يتأثر بمشكلاتنا النفسية وأزماتنا هم أطفالنا، يحملون معهم هذا الأثر طوال حياتهم، ويحتاجون إلى جهد جبار للتخلص من تراكمه في لا وعيهم. والأم أكثر أفراد المجتمع عرضةً لأن تُصاب بأمراضه لكونها امرأة، الطرف الأضعف في المعادلة الاجتماعية والدينية. ولكونها مضطرة للبقاء، ولو تظاهراً، ضمن الهالة التي وضعها الدين والمجتمع ضمنها، فـ"الجنة تحت أقدام الأمهات". الأم أعلى من الجنة، هكذا يتم وصفها، وبالقياس إلى هذا التوصيف، يتم التعامل مع الأم بوصفها تنتمي إلى جنس "الأمهات"، هذا الجنس الذي ليس لديه رغبات، ولا حاجات، ولا غرائز، ولا شهوات، ولا أطماع، ولا نيات سيئة، ولا يضمر الشر، ولا يعرف الطمع، ولا الغدر، ولا النميمة، ولا الخيانة، ولا القسوة، ولا يملك أياً من الصفات السيئة التي توجد لدى البشر الطبيعيين، جنس "الأمهات" المعقم، الهلامي، الذي لا ينتمي إلى هذا العالم، ولا إلى الكوكب الأرضي.
هل الأمهات هكذا فعلاً؟ هل نحن الأمهات هكذا؟ وهل أمهاتنا كنّ كذلك أيضاً؟ نكذب على أنفسنا إن قلنا بأننا هكذا. دعوني أقُل إنني لست هكذا، ولا أرى أمي هكذا، ولا أعرف أيّ أمّ هكذا. ولا أريد لابنتي حين تصبح أماً، أن تكون هكذا. نحن ننتمي إلى جنس البشر بكل ضعفه وغرائزه ومشكلاته. لا ننتمي لجنس هلاميٍّ لا قوام له، لا تريد الأمهات أن يقدّسهن أولادهن. ولا يردن أيضاً أن يكنّ سلعة إعلانية، ولا أن يكنّ مواضيع للقصائد والخواطر الشعرية. تريد الأمهات، العربيات خصوصاً، أن يكنّ نساء طبيعيات، لا يصادر أحد حقوقهن الشخصية تحت أي ذريعة، أن يكنّ خارج التجاذبات السياسية والاجتماعية والدينية، وخارج تصنيف الأم المثالية.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.