كيف يبني السيسي نظامه الأمني؟

كيف يبني السيسي نظامه الأمني؟

22 مارس 2019
+ الخط -
نشرت العام الماضي مقالة بالإنكليزية، تعتني بسؤال كيف أن الثورة المضادة في مصر وضعت الأمة المصرية على مفترق طرق. وقد تكون المقالة مقدمة لدراسة بحثية لفهم ديناميكيات النظام الحالي وتحولاته. الآن، وبعد ست سنوات من الانقلاب العسكري، تتشابه التكتيكات، وطريقة إدارة المرحلة التي تمت منذ يناير/ كانون الثاني 2011، وصولا إلى اللحظة الراهنة، وكلها توضح، من اللحظة الأولى، من هو قائد الثورة المضادة.
عمد عبد الفتاح السيسي، بعد تمرير الانقلاب بأسابيع، إلى تأسيس نظامه، أو الأسس التي سيحكم من خلالها في مرحلة ما بعد الانقلاب، واضعا نصب عينيه الأخطاء السابقة التي مر بها سابقوه من جنرالات دولة يوليو (1952)، فاستطاع أن يبلور في ذلك استراتيجية مفادها أنه لن يبقى أحد في مكانه أكثر من عامين أو ثلاثة، تجنبا لتكوين ولاءاتٍ أو مراكز قوى، فاستفاد، في ذلك، من الصراع الذي تولد بين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير الدفاع عبد الحكيم عامر، وانتهى بمقتل الثاني، وفي الوقت نفسه، استفاد من التجربة الشخصية التي عاصرها هو بنفسه، من خلال إبقاء المخلوع حسني مبارك على الجنرال حسين طنطاوي عشرين عاما على رأس المؤسسة العسكرية، ومن خلالها استطاع طنطاوي تأسيس الولاءات الخاصة به، وكذلك مراكز القوى، والسيسي واحد من تلك المراكز التي تأسست، وساهمت فيما بعد في تنفيذ انقلاب ناعم على السلطة في أعقاب الانتفاضة الشعبية في العام 2011. درس السيسي تلك الأخطاء جيدا واستفاد منها، ثم استمر في بناء نظامه السياسي الذي يتكئ على أعمدة خمسة.
المخابرات الحربية باعتبارها جهازا أمنيا، يستطيع من خلاله السيطرة على الأجهزة الأمنية المختلفة، الائتلافات بديلا عن الحزب السياسي، إنشاء بيروقراطية موازية لبيروقراطية الدولة، الهيمنة الاقتصادية من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، إلى جانب التغيير في البنية التشريعية للدولة ومحاولة بناء بيروقراطية موازية.

تصفية المخابرات العامة لصالح المخابرات الحربية
بدأت قصة هيمنة المخابرات الحربية مبكرا، خصوصا مع الانتفاضة الشعبية، وهي المرة 
الأولى التي تنتقل فيها المخابرات الحربية إلى مجال عمل جديد، لا علاقة لها به من قبل، وهو الانتقال من مجال مراقبة الجيش ووحداته المختلفة إلى المجال العام الذي تختص به المخابرات العامة. ومعروف أن ولاء المخابرات العامة لرئيس الجمهورية، وترفع تقاريرها مباشرة إليه. فمنذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، أعاد السيسي هيكلة الجهاز، لكي يضمن تبعيته له بشكل كبير، لأن في الفترة التي تولي السيسي فيها إدارة المخابرات الحربية في 2010، وهو يعلم صلاحيات جهاز المخابرات العامة التي توسعت بشكل كبير في أيام رئاسة اللواء عمر سليمان للجهاز، وأن "المخابرات العامة" جهاز يتمتع بثقة مطلقة وصلاحيات واسعة، منحت، في أثناء فترة حكم حسني مبارك، لقيادة الجهاز. وتولد عن هذا الأمر صراع بين المخابرات العامة والوافد الجديد، المخابرات الحربية، فيما يتعلق بالمجال العام وآليات العمل فيه. والفترة التي قضاها جهاز المخابرات العامة في المجال العام جعلت السيسي يكتسب تجربة واضحة في كيفية تأدية هذا العمل، وتمثل ذلك في عمل ملف لكل الحركات والائتلافات المختلفة التي وجدت في أثناء الانتفاضة الشعبية وبعدها (اعترف السيسي بنفسه فيما يخص هذا الأمر). ومع تمرير الانقلاب، كانت المهمة الأساسية تفكيك الولاءات الموجودة داخل جهاز المخابرات العامة، ونقل سلطاتها ومجال عملها إلي المخابرات الحربية، تحسّبا من أن تلعب المخابرات العامة في أي يوم ضد السيسي وتسعى إلى معارضته. لذا كان لا بد من تصفية شبكة الولاءات داخل هذا الجهاز، وتفكيكها، لتكتمل سيطرة المخابرات الحربية على المجال العام إلي جانب المجال العسكري، وإخضاع المخابرات العامة لسيطرة السيسي مباشرة، من خلال مدير مكتبه السابق، عباس كامل، الذي أصبح مديرا للجهاز. وهو ما حدث بالفعل في إطاحة وكلاء عديدين لجهاز المخابرات العامة وتصفيه قيادته. من بين تجليات سيطرة المخابرات الحربية على مجال الأجهزة الأمنية أن وزير الداخلية لم يعد يسمع أحد باسمه، أو يعرف من هو، بينما يبرز دائما اسم من يتولى رئيس جهاز المخابرات الحربية. قام السيسي بتفكيك الجهاز، وتقييد صلاحياته، منذ اللحظة الأولي، وتمت عملية التفكيك والتصفية في الخطوات التالية:
في اللحظة الأولى للانقلاب، أطاح السيسي باللواء محمد رأفت شحاتة الذي تم تعيينه عام 2012، في أثناء حكم الرئيس محمد مرسي، وتم استبداله برئيس هيئة الرقابة الإدارية حينها، اللواء محمد فريد التهامي. ولأن جهاز المخابرات العامة يتبع رئاسة الجمهورية، لا بد من 
صدور قرارات من رئاسة الجمهورية يتم تشرها في الجريدة الرسمية. وتبعا لذلك، أصدر الرئيس المؤقت، عدلي منصور، قرارا جمهوريا حمل رقم 634 لسنة 2013 بإحالة عشرة من وكلاء جهاز المخابرات العامة إلى المعاش.. وفي يناير/ كانون الثاني 2017، أصدر السيسي قرارا بإحالة 19 من وكلاء المخابرات العامة إلى المعاش، وكان في مقدمة المحالين مسؤول ملف فلسطين في الجهاز، محمد وائل محمد عبد الغني الصفتي، ليتم نقل الملف إلى المخابرات الحربية، ومنه إلى عباس كامل، حينما تولى رئاسة جهاز المخابرات العامة.
أشيعت، في تلك الفترة، تكهنات عدة بشأن أسباب تصفية المخابرات العامة، منها التسريبات التي تمت بشأن هيمنة الأجهزة الأمنية على الإعلام، بالإضافة إلى التسريبات المتعلقة بمحاولة اغتيال وزيري الدفاع والداخلية السابقين، صدقي صبحي ومجدي عبد الغفار، في أثناء زيارتهم مدينة العريش العام الماضي. وأشارت تكهنات إلى تورّط الجهاز في دعم المرشح الرئاسي السابق، سامي عنان، وكذلك معارضة صفقة القرن، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية. وإن كنت أرى أن للأمر علاقة بكل ما مر، إلى جانب إرادة السيسي في الهيمنة على الجهاز، لعدم ثقته في أي جهاز آخر سوى جهاز المخابرات الحربية. انتهى الأمر الآن بتولي نجل السيسي جهاز المخابرات العامة، ونقل نجله الآخر من وزارة البترول، ليكون المسؤول عن قطاع الاتصالات داخل الجهاز.

الائتلاف بديلاً للحزب السياسي
يوظف عبد الفتاح السيسي والذين معه ما يعرف بالائتلافات، أو النقابات، لخدمة أهدافه السياسية، فالرجل لا يؤمن بالأحزاب السياسية، ولا دورها. ولذلك سيلجأ إلى تلك الحيلة الناصرية نفسها، كما أن تجربته في الفترة الانتقالية، ولقاءاته مع الائتلافات المختلفة التي تشكلت بعد الانتفاضة الشعبية في العام 2011، جعلته يدرك أهمية هذه الفئة في التعبئة السياسية، وهي ما لجأ إليها المجلس العسكري في الفترة الانتقالية، في إنشاء الائتلافات والجماعات المختلفة، وتمويلهم لإيجاد ما يسمى حشد العباسية في مواجهة حشد التحرير، وهي مستلهمة من التجربة الجزائرية، بإنشاء كياناتٍ وهميةٍ للعب أدوار سياسية.
بعد انقلاب "3 يوليو" في 2013، أدرك السيسي أن هناك معضلة قد تواجهه، وهي بقايا الحزب الوطني (المنحل) والذين لهم شبكة علاقات متشعبة، إلى جانب الملكيات الزراعية وغيرها، وولاؤهم للدولة وليس لشخصه، كما أنه قد ينتج صراع على السلطة المحلية/ المجتمعية بينهم وبين رجال السيسي الجدد، فلجأ السيسي، من خلال الأجهزة الأمنية، إلى إنشاء ما تسمى نقابة الفلاحين، لتلعب دور الوسيط بين بقايا الحزب الوطني والوافدين الجدد، ولتكون البديل للحزب الوطني في الصعيد.
بالتفتيش في القانون رقم 122، الصادر عام 1980، بشأن التعاون الزراعي، تجد أن الجمعيات التعاونية الزراعية هي جمعيات تتكون حسب الحاجة ووفقاً لطبيعة نشاط كل منها في خدمة مجالات الإنتاج النباتي، الإنتاج الحيواني، الإصلاح الزراعي، واستصلاح الأراضي. استنادا إلى القانون السابق، والشروط التي وضعها لإنشاء الجمعيات التعاونية، نجد أن ما تسمى نقابة الفلاحين كيان وهمي، لا يضم فلاحين ممن وصفهم القانون السابق، وعدد كبير من 
أعضائه لا علاقة لهم بالأمر. هنا يتضح المغزى الأساسي من تلك النقابة الوهمية، وهو لعب دور سياسي في الأساس. وبإلقاء نظرةٍ على أعضائها، نجد أن عددا منهم هم من بقايا الحزب الوطني الذين يسعون، مرة أخرى، إلى استعادة دورهم المفقود، بعد الانتفاضة الشعبية، أو بتعبير آخر، سلطتهم المحلية، إلى جانب وافدين جدد صنعتهم الأجهزة الأمنية على أعينها.
بدأت قصة تلك المجموعة بعد الانقلاب مباشرة، حينما سافر عدد منهم في العام 2013، بإيحاء من الأجهزة الأمنية، لمقابلة عبد الفتاح السيسي، حينما كان وزيرا للدفاع، ولإعلانهم أن فلاحي مصر يساندونه للترشح لرئاسة الجمهورية، وهو ما تم. وحينها انطلقت الصحف لتقول إن فلاحي مصر، ممثلين في نقابة الفلاحين، تعلن دعمها السيسي في الترشح لرئاسة الجمهورية. وكان هذا إيذانا بانطلاق هذا الكيان الوهمي، ليلعب هذا الدور الموكل إليه. يتحرّك هذا الكيان في صعيد مصر بأوامر من الأجهزة الأمنية، ولديه علاقات قوية معهم، ويلعب دورا اجتماعيا من خلال التوسط في حل مشكلات عديدة، برعاية أمنية، أملا منه في بناء شبكة اجتماعية، تضاهي شبكة الحزب الوطني، أو جماعة الإخوان المسلمين. وقبل أيام، أعربت نقابة الفلاحين عن دعمها لتعديل الدستور، وجعل ولايته للحكم ست سنوات بدلا من أربع. وهنا كشفت عن الدور الرئيسي الموكل لها، ناهيك عن دخولها في صراعاتٍ مع الاتحاد التعاوني الزراعي، لكن مساندة الأجهزة الأمنية تمنع حدوث أي رد فعلٍ تجاهها.

معضلة إيجاد حزب سياسي
لعدم إيمانه بمشروعية الحزب السياسي، استعاض السيسي بالائتلافات والجماعات المختلفة، بديلا عن مسألة الأحزاب السياسية. وعلى خطى مؤسس دولة يوليو، الجنرال جمال عبد الناصر، الذي أعلن حل الأحزاب السياسية، وتجميد أنشطتها، عندما سطر بداية انقلابه في أوائل خمسينيات القرن الماضي، أعلن السيسي عداءه لتلك الأحزاب ووجودها بوضوح، حينما اعتقل رؤساء وأعضاء أحزاب سياسية شرعية، مثل رئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح، وغيره. استعاض الجنرال بالظهير بالائتلافات التي تحكمها، وتقوم بتشكليها، الأجهزة الأمنية، بديلا عن الحزب السياسي، وكذلك البديل الأمني في مجمله، بديلا عن الظهير السياسي، متمثلا في أجهزته الأمنية. ولكن مع الوقت تم الكشف عن ضعف تلك الأجهزة الأمنية، في لعب دور الحزب السياسي، أو حتى مضاهاته. وبرز هذا في الانتخابات الرئاسية التي لم يستطع الجنرال وأجهزته إخراجها على طريقة الحزب الوطني أيام حسني مبارك، فالحزب الوطني، من خلال شبكة علاقاته، خصوصا شبكة العصبيات والقبليات في صعيد مصر، كان دائم القدرة على تزوير الانتخابات، إلى جانب الحشد الذي يكون بمثابة التغطية لهذا التزوير الممنهج، والممارس عبر عقود، وبمساعدة الأجهزة الأمنية، وفي مقدمتها الداخلية. عدم وجود ذلك الظهير السياسي للجنرال السيسي إلى جانب عدم وجود الخبرة لدى المخابرات الحربية في إتمام العملية، كما تقوم به الداخلية، أدى إلى أن تكون الانتخابات الرئاسية في حلتها النهائية أقرب إلي المسرحية الهزلية علي مستويي الحبكة والإخراج. الآن، يتكرّر الأمر في الدعوة إلى تعديل الدستور، وبالعقلية والمنهجية نفسيهما من دون تغيير، وهو ما يعكس أزمته التي تدل على أنه يحمل عوامل فنائه في داخله.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.