مذبحة نيوزيلندا وخطاب الكراهية

مذبحة نيوزيلندا وخطاب الكراهية

20 مارس 2019
+ الخط -
لم تقتصر نزعة العنف والتطرّف على زمن معين، ولا بلد دون غيره، على الرغم من الدعوات المتكررة والحثيثة بالترفع عنها واتهامها بأنها وليدة شريعة الغاب، وربيبتها المتوحشة، وكلها تأتي في سياق مشروع واحد، والمستهدف فيها واحد، وإن اختلفت العناصر المنفذة، فهي تحمل فكراً واحداً وثقافة واحدة، وتسير وفق استراتيجية واحدة. هذه الحقيقة التي لا نستطيع تجاهلها هي أن هذا العمل، وهذه الجرائم، تتنافى مع كل القوانين والشرائع والقيم والمبادئ الإنسانية، وهي أعمال منظمة، وعمليات ممنهجة، ومدروسة بعناية كالذي حدث في الهجوم الغادر على مسجدين بمدينة كرايست تشيرش في نيوزيلندا.
لم يعد غريباً علينا القتل بحكم استمراره، ولم يعد بعيداً ولاغريباً علينا انتهاك حرمات المساجد ومختلف المقدسات، والمسجد الأقصى ليس عنّا ببعيد، وإنما الغريب على المجتمع العربي والإسلامي، أننا لم نع بعد أن هذا القتل هوعمل ممنهج ومدروس، وليس عفويًا ولا عملاً فردياً، فالمستهدف في هذا هو دين الإسلام الحنيف والمسلم أينما وُجد.
المنفّذ للجريمة هو ذاك الذي يحمل ثقافة الكراهية والخبث والعنصرية الذي لا يرعى حرمة لهذا الدين ولا حتى للإنسانية، إنه عمل إجرامي ووحشي صدم مشاعر جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم وألحق الأذى بهم، فقد نفّذ عمله الإجرامي بدم بارد، وعلى أنغام الموسيقى، خلال صلاة الجمعة، متذرعاً بالانتقام لضحايا هجمات ارتكبها مسلمون ومهاجرون في أوروبا كما يزعم. وبدأ تصوير جريمته بمنتهى الهدوء من داخل سيارته، مرتدياً دروعاً واقية وزياً عسكرياً وخوذة، قائلاً بكل وقاحة: دعونا نبدأ هذه الحفلة، ثم سحب واحدة من البنادق الآلية وعدداً من خزائن الذخيرة، متوجهاً مباشرة صوب مسجد النور في المدينة، حيث كانت شعائر صلاة الجمعة قد بدأت للتو، منتهكاً حرمة بيوت الله، وسفك دماء المصلين.
المجرم الذي يدعم أيديولوجية اليمين المتطرف، ويتبنى سياسة معاداة المهاجرين، ويعلن تأثره بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، باعتباره رمزاً لإعادة الاعتبار لهوية البيض، وإعلانه في الوثيقة أنه يريد الوقوف بوجه الهجرة إلى العالم الغربي بتخويف المسلمين بشكل مباشر عن طريق العنف، كما يريد أن ينتقم لما شهدته البلاد الغربية من هجمات إرهابية مستوحياً هجومه من، أندرس بيهرينغ بريفيك، الإرهابي اليميني مرتكب هجمات النرويج عام 2011، وأن جريمته هذه تأتي أيضاً انتقاماً لهجوم بالسويد في أبريل/ نيسان 2017، وتأثره بكانديس أوينز، وهي ناشطة مؤيدة بشدة للرئيس الأميركي.
ويشرح القاتل في بيانه الذي جاء بعنوان "البديل العظيم"، أسباب ارتكابه لهذه المذبحة، مشيراً إلى التزايد الكبير لعدد المهاجرين الذين اعتبرهم محتلين وغزاة، كما فسر سبب اختياره لهذا المسجد تحديداً، وهو أن عدد رواده كثيرون! ويضيف، أن أرضنا لن تكون يوماً للمهاجرين، وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظل كذلك، ولن يستطيعوا يوماً استبدال شعبنا.
ويزعم أنه ارتكب المذبحة لينتقم لمئات آلاف القتلى الذين سقطوا بسبب الغزاة في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ. ولينتقم لآلاف المستعبدين من الأوروبيين الذين أخذوا من أراضيهم ليستعبدهم المسلمون.
ولعل العبارات والمصطلحات العنصرية التي شوهدت موشومة على سلاحه تلخص فلسفته كلها، ومن بينها آكلو الأتراك، وهو اسم لعصابات يونانية في القرن الـ 19 كانت تشن هجمات دموية ضد العثمانيين، وكذلك عبارة اللاجئون "أهلاً بكم في الجحيم". وكذلك عبارة "1683 فيينا" في إشارة إلى تاريخ معركة فيينا التي خسرتها الدولة العثمانية ووضعت حداً لتوسعها في أوروبا، وكذلك تاريخ "1571" في إشارة إلى معركة ليبانتو البحرية التي خسرها العثمانيون أيضاً.
تشير العبارات التي كتبها منفذ مجزرة مسجد النور في نيوزيلندا، برينتون تارانت، إلى حقد دفين، وكراهية متجذرة، وعنصرية واضحة، وأنه قام بها انتقاماً لعمليات إرهابية وقعت في أوروبا، ولآلاف الضحايا الذين سقطوا بسبب الغزو الإسلامي، وهذه دلالة واضحة أنّ هنالك مجموعات كبيرة من المتطرفين يتحركون في الدول الأوروبية بحرية، استناداً إلى القوانين الداخلية لهذه البلدان، ويتم هذا بدعم ورعاية من الحكومات الأوروبية، وكما يقال: من خلف الستار وبشكل غير معلن، وهذا الأمر انعكس بشكل سلبي على مجتمعات هذه الدول، ويحصد نتاج الأمر المواطن الأوروبي البسيط الذي ليس له أي علاقة بسياسات حكوماته، وخاصة الاستخباراتية والفكر الاستعماري والعنصري العنيف، إضافة إلى شوائب ورواسب الثقافات الدخيلة والمعتقدات الفاسدة الباطلة التي تسببت في ضرب الأمة العربية والإسلامية في روحيتها ومعتقدها وقيمها وأخلاقها ومبادئها، وكذلك عروبتها وأصالتها وفطرتها الإنسانية السليمة.
الوثيقة المنشورة في 73 صفحة على شكل أسئلة وأجوبة، تعلن دوافع المهاجم وبعض التفاصيل عن خلفيته دون تسميته، ولا يكتفي بهذا فقط، بل تتطرق في وثيقته إلى أسماء كبيرة يريد استهدافها، كالمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وعمدة لندن، صادق خان، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
ومن بين العبارات العنصرية التي كتبها على سلاحه "التركي الفج"، وعبارة "عكا 1189"، في إشارة إلى الحصار الذي فرضه ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، وفيليب، ملك فرنسا، على الحامية الأيوبية في مدينة عكا عام 1189. كما وأظهرت الموسيقى الخلفية في الفيديو، الذي بثه، دوراً في إظهار نواياه العدوانية ودوافعه العنصرية؛ إذ كان يبث أغنية باللغة الصربية تشير إلى رادوفان كاراديتش، الملقب بسفاح البوسنة، وهو سياسي صربي مدان بجرائم عدة، بينها ارتكاب إبادة جماعية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وانتهاك قوانين الحرب، ضد المسلمين، إبان حرب البوسنة 1992 – 1995، وكلمات الأغنية: الذئاب في طريقهم من كراجينا، في إشارة إلى ما كان يُعرف جمهورية كراجينا الصربية التي أعلنها الصرب عام 1991، الفاشيون والعثمانييون: احترسوا كراديتش يقود الصرب.
هذا الاعتداء الإرهابي المروع يشكل مؤشراً خطيراً على النتائج الوخيمة التي قد تترتب على تصاعد خطاب الكراهية ومعاداة المسلمين وانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في عديد من بلدان أوروبا. وما حدث في نيوزيلندا، يستدعي منّا جميعا أن ندرك حقيقة مهمة، وهي أن المستهدف هو دين الإسلام الحنيف والمسلمون في كل مكان.
73503916-AE86-4467-9685-E4E3F3B13B2F
73503916-AE86-4467-9685-E4E3F3B13B2F
ظاهر صالح (فلسطين)
ظاهر صالح (فلسطين)