عن "الدولة" العربية

عن "الدولة" العربية

20 مارس 2019
+ الخط -
ما زال مفهوم الدولة ودورها وعملية بنائها وعلاقتها بالسلطة والمجتمع في المنطقة العربية مادة لنقاش أكاديمي لا ينتهي، ولا يبدو أنه يحقق تقدما لجهة إزالة ما يحيط به من لبس وغموض. هذا نظريا، أما على أرض الواقع فيتسبب هذا الالتباس بكوارث كبرى جارية، من نمط ما نشهده في سورية والعراق واليمن وليبيا، وكوارث منتظرة من نمط ما يتوقعه بعضهم في مصر والسودان وغيرهما.
وينقسم دارسو السياسة والمجتمع في الوطن العربي، سواء كانوا من أبناء المنطقة أو المستشرقين، المهتمين بها، والمتسقطين أخبارها، إلى مدارس في محاولة تشخيص هذه المشكلة وتفسيرها، يرى بعضهم أن السبب في فشل بناء دولة عصرية هنا يعود إلى موروث تاريخي - ثقافي، ملخصه أن فكرة الدولة لا يمكن تصورها في الوعي الجمعي العربي أو الإسلامي خارج إطار السلطان، السلالة أو بيت الحكم، بدليل أن اسم الدولة طالما ارتبط عربيا وإسلاميا باسم الأسرة الحاكمة، مثل دولة بني أمية، ودولة بني العباس، والدولة الإخشيدية، والأيوبية، العثمانية، والصفوية والقاجارية وغيرها، وصولا إلى دولة آل سعود، وذلك بدلا من أن تحمل اسم الأرض أو الإقليم الذي تقوم عليه الدولة. يتجاهل هذا التيار طبعا أن دولا إسلامية أخذت أيضًأ أسماء غير أسماء السلالات، مثل دولتي الموحدين والمرابطين في المغرب العربي والدولة المغولية في الهند، وفي مطارح أخرى أخذت الدولة اسم الإقليم أو المكان، مثل دولة دمشق ودولة حلب، ومملكة غرناطة وغيرها.
يرى آخرون أن مفهوم الدولة نفسه غريب عن الثقافة العربية الإسلامية، لعدم اعتراف الإسلام أصلا بالدولة الإقليمية القومية (territorial nation state)، فالدولة في الإسلام هي دولة الأمة، لا دولة الاقليم الجغرافي، لكن هؤلاء يتجاهلون حقيقة أن الدولة الإقليمية القومية كانت غريبة أيضا في الثقافات الأخرى، فأوروبا لم تعرفها إلا في منتصف القرن السابع عشر، ولم تصل إلى تحقيقها إلا في القرن التاسع عشر، أي في الوقت نفسه تقريبا الذي بدأت تظهر فيه ملامح الدولة القومية في إيران وتركيا ومصر، مثلا. الفرق طبعا أن الدولة الأوروبية ظهرت وفق موازين القوى بين أطراف الصراع الأصلية، أما الدولة العربية فقد تم رسم حدودها بناء على موازين القوى بين أطرافٍ من خارج الإقليم (القوى الاستعمارية الأوروبية).
ترى المدرسة الثانية أن مشكلة الدولة في العالم العربي أكثر راهنية، ومتصلة بنمط الإنتاج، وليس بعوامل الثقافة والدين، فالدولة هنا تحكم مجتمعات غير منتجة (دولة ريعية) تستخرج موارد طبيعية (نفطا وغازا) تبيعه في السوق العالمية، وتوزع جزءا من ريعه على مواطنيها. هذا النمط من الإنتاج لا يسمح بنشوء علاقة سليمة بين الدولة والمجتمع، أو بروز صيغة تعاقدية، تحقق متطلبات كل طرف واحتياجاته. طبعا هذه المدرسة لا تفسر لماذا تسلك الأمور الطريق نفسها في الدول غير الريعية في المنطقة العربية، حيث يدفع الناس مثلا ضرائب كثيرة، ويبقون مع ذلك من دون تمثيل، ومن دون مشاركة سياسية، كما هو الحال في سورية ومصر.
يرى تيار آخر أن سيادة مفهوم مشوه للدولة لا تساعد في عملية بنائها، ولا في إقامة علاقة متوازنة بينها وبين مجتمعها، فالدولة لدينا ما زالت تعد أداة حكم وسيطرة، الذي يظفر بها يحكم ويسود ويستبد، بدلا من اعتبارها تنظيما أو مؤسسة حيادية في علاقتها بمختلف قوى المجتمع، مهمتها الأساسية إدارة العلاقات والاختلافات بينها، بما يضمن حفظ الأمن والنظام وتطبيق القانون ومواجهة التهديدات، وتأمين الحقوق العامة والخاصة، وتوفير السلع والخدمات. هذه المؤسسة تديرها سلطةٌ تنبثق من المجتمع، تمثله وتحقق إرادته، وتبقى في هذه المسؤولية طالما أظهرت كفاءة. لكن النظرة للدولة باعتبارها أداة حكم وسيطرة ليست أمرا خاصا بنا، أيضا، بدليل أنها شغلت أجيالا مختلفة من المفكرين الأوروبيين (الماركسيين خصوصا). لهذا السبب، قد يكون من الأفضل لنا أن نتحدث عن دولة عربية غير مكتملة البناء، أو دولة في طور البناء، تواجه صعوباتٍ كثيرة، كما الآخرون، وهي تحاول الانتقال من حالة شبه دولة الى دولة مكتملة الأركان.

دلالات