لماذا الجزائر مهمة؟

لماذا الجزائر مهمة؟

13 مارس 2019
+ الخط -
نظراً لموقعها الجغرافي، في قلب العالم العربي، وثقلها الديموغرافي (تشكل وحدها ثلث سكان العالم العربي)، لعبت مصر على امتداد القرنين الأخيرين، منذ حملة نابليون وانكشافها على الحضارة الأوروبية أواخر القرن الثامن عشر، دوراً مركزياً في تطور العرب (وغيرهم) السياسي والاجتماعي والفكري، لكن الجزائر، مع أنها دولةٌ طرفيةٌ أكثر، وثقلها السكاني أصغر، وغيّبها الاستعمار الفرنسي عن عالمها العربي خلال الفترة نفسها تقريبا التي صعدت فيها مصر (1830-1962)، إلا أن تأثيرها لم يكن أقل أهميةً. وإذا استثنينا فلسطين، لم تحتل قضية تحرّر وطني مكانًا في الوجدان العربي، والعالمثالثي أيضًا، مقدار حركة التحرّر الوطني الجزائرية. كان انتصارها عام 1962 نقطة فاصلة في تاريخ النضال العالمي ضد الاستعمار، تحرّرت بعده كل أفريقيا تقريبا، وكانت تعويضا كبيرا للقوميين العرب عن سقوط الوحدة المصرية - السورية، وبلغ صداها أميركا اللاتينية (كوبا وغواتيمالا)، والهند - الصينية، حيث كانت فيتنام تخوض، خلال الفترة نفسها، تقريبا نضالا مشابها ضد الاستعمار الفرنسي.
عندما بدأت تبرز علامات انهيار الشيوعية ومظاهر تصدّع الاتحاد السوفييتي، كانت الجزائر الدولة العربية الأولى التي تستجيب للتغيرات الكبرى في النظام الدولي، إذ حصلت فيها انتفاضة أكتوبر 1988، حتى قبل سقوط جدار برلين بعام، وكانت أول دولة عربية تدخل مرحلة تحوّل ديموقراطي بقرار اتخذه، في ذلك الوقت، الرئيس الشاذلي بن جديد، وكانت أول دولةٍ محسوبةٍ على الاتحاد السوفييتي، تجري فيها انتخابات حرة ونزيهة عام 1991 (حتى قبل أوروبا الشرقية) فازت في جولتها الأولى المعارضة الإسلامية.
العرب، شعوبًا وأنظمة، ومعهم العالم، كانوا يرقبون ما يجري في الجزائر باهتمام بالغ، ولو نجحت التجربة الديموقراطية فيها لكان لها فعل الدومينو، نظرًا لأنها جاءت في لحظة ضعفٍ وترقبٍ وضياع عاشتها الأنظمة العربية (الجمهورية خصوصا) بعد انهيار حليفها السوفييتي الكبير. فشل التحول الديموقراطي، نتيجة تدخل الجيش، بدعم فرنسي، لمنع وصول الإسلاميين إلى السلطة، قضى على آمال التغيير في الجزائر، وترك تداعيات عميقة في العالم العربي. وبمقدار ما كانت الأنظمة العربية تخشى التجربة الديموقراطية الجزائرية الوليدة، غدت تستخدم فشلها فزّاعةً لإبعاد "شبح" الديموقراطية عنها.
عندما تحرّر العرب من عقدة الجزائر عام 2011، وانطلقت ثورات الربيع العربي، أبت الجزائر أن تستجيب. من تونس إلى المغرب إلى ليبيا ومصر في شمال أفريقيا حصلت تغييرات كبرى، لكن الجزائر استعصت بفعل تجربتها المريرة. انتظرت كل الآخرين، قبل أن تنتفض من جديد بإرادة مستقلة، وبعيدا عن أي تأثيراتٍ في الإقليم، وفي اللحظة التي كان ينعى الجميع ربيع العرب، وكأنها تصرّ على فرادتها وقيادتها، وعلى أن تكون هي التي تختص بتقديم النموذج لبقية العرب.
أحسن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة صنيعا بإنقاذ تاريخه النضالي، وفي تقديم نموذج جنّب فيه بلاده نفقًا مظلمًا، لو أصر على الترشّح لولاية جديدة (قارن بسورية مثلا). استجاب دفعة واحدة للمطالب التي عبر عنها الشارع الجزائري، فقرر تأجيل الانتخابات وعدم الترشّح فيها، ودعا إلى مؤتمر وطني لإقرار إصلاحاتٍ دستوريةٍ، تسبق الانتخابات التي تعهد بإجرائها تحت إشراف لجنة مستقلة، كما تعهد بتسليم مهام الرئاسة للرئيس الجديد الذي ينتخبه الشعب.
إذا صدقت النيات، يمكن أن يتحول بوتفليقة إلى مؤسس فعلي للجمهورية الجزائرية الجديدة. دوره، إذا نجح لن يقل أهميةً عن الدور التأسيسي الذي لعبه ديغول في فرنسا، أديناور في ألمانيا، أتاتورك في تركيا، مهاتير في ماليزيا، أو لي كوان في سنغافورا. ويمكن أن يتوّج به مسيرته السياسية الطويلة التي بدأت مع الاستقلال، وصولا إلى إنجازه الكبير في إخراج البلاد من نفق التسعينيات المظلم، بإقراره قانون الوئام الوطني الذي طوى صفحة العشرية السوداء، إضافة إلى نجاحه الأكبر طبعا في إخضاع الجيش للسلطة المدنية، وهو الشرط اللازم لقيام الديموقراطية. وحدها الجزائر نجحت في ذلك، حيث فشل كل الآخرين، وهي تؤكد لنا أيضا أن لا تغيير سلميا آمن، ما لم تتعاون قوى النظام القديم في إنتاج الجديد. لهذه الأسباب، تعد الجزائر مهمة، ولهذه الأسباب ترقب العيون ما يجري فيها باهتمام شديد.