أمجاد تبنيها السخافة

07 فبراير 2019
+ الخط -
بعد خروجنا من الحرب الأهلية بثلاث سنوات، صيف عام 1993، نظّمت الجمعية العربية لعلماء الاجتماع إحدى فعالياتها في لبنان، في إحدى قراه البقاعية. وقد تبرّع بالمكان صاحب مشاريع خيرية ضخمة، فاز بالمقعد النيابي قبل عام، ومن بعده فاز أيضاً بإحدى المناصب الوزارية. وفي إحدى الجلسات العامة للمؤتمرِين، حضرته هذه الشخصية العامة، كان فضولنا منكبّا على منصبه الجديد هذا، وحول تصوّره لقيادة الوزارة والمشاريع التي في حوزته لتطويرها. كنا خارجين لتوّنا من الحرب الأهلية، متعَبين، نترقّب الأمل من أية نافذةٍ يطلّ علينا؛ خصوصاً أن الاتفاق الذي أغلق باب الاقتتال الأخوي، أي اتفاق الطائف، قد وعدنا بالخير، بالإصلاح، بإلغاء الطائفية، بإصلاح الإدارة.. إلخ. ثم إن وجه الشخصية البقاعية هذه، السمِح، المفْعم بالطيبة والأنس، يُغرينا، يُروي استعدادنا للتصديق، وبالتالي للسؤال غير البروتوكولي، ولا الإعلامي. فقام أحدنا وسأله، من دون الحاجة إلى زيادةٍ في الجرأة: "معاليك.. ماذا ستفعل في هذه الوزارة؟". وكان جواب الشخصية جليلاً: "لا مشاريع لديّ.. ولكن المؤكد أنني لن أسرق"؛ في تلميحٍ لا يحتاج لبيباً ليفهمه إلى "زملائه" من النواب، أو الوزراء، الذين لم ينتظروا انقشاع وجهة السير باتفاق الطائف، ليكمّلوا حفلة التشبيح المليشياوية التي احترفها بعضهم في أثناء الحرب، قبل توقيع الاتفاق.
المهم أننا صدّقنا الشخصية البقاعية هذه، أو ربما أردنا أن نصدّقها. فنحن لم نكن أطفالاً وقتها، والشك لازم سنواتنا السابقة. ثم راحت أيام وجاءت أخرى، وإذا بالشخصية البقاعية الدمِثة 
تتحول، خلال السنوات التالية، إلى الثراء الفاحش، والمزيد من القوة، بالتالي، ومن الاستمرار في مواقع سلطوية مختلفة، فخلال هذه السنوات، استطاع أن يبني شراكةً مع الوصاية السورية في مشاريع تخص وزارته، يتقاسم بموجبها "الكومسيون" مع مندوب الوصاية. وهكذا، إلى أن تحوّلت شخصيتنا الطيبة هذه إلى أعتى المدافعين عن الوصاية، وأكثر أصدقائها "وفاء".
أتتْ على بالي هذه الواقعة منذ أيام، في أثناء الاحتفال والاحتفاء المبالغ فيهما بتشكُّل مجلس الوزراء الجديد. ومن ضمن ما شدّني تلك التصريحات التي عادت وهبطت علينا من جديد، عن نياتٍ كلها حسنة، عن وجوهٍ جديدة، عن نساء أربع ووزارة "ثقيلة" لإحداهن، عن نسبة الشباب والناجحين وأصحاب الكفاءات، والشهادات والتجارب الفذَة. وكلها تريد لنا أن نبتلع أن "عهدا" جديدا قد دَشِّن، وبأننا نعدكم، بأننا سوف نصلح ونروح ونجيء، ونحارب الفساد والطائفية.. إلخ.
ثمّة نقطة عجيبة في هذه الوضعية، فالذي حصل، بعد الحرب الأهلية، أن هجمةً من التكاذب والتذاكي والتشبيح "الرسمي"، أفرزت عشراتٍ من أمثال شخصيتنا البقاعية. بعدما قُضي على الاتفاق المنْهي لهذه الحرب، وتحولت السلطة إلى مَفْسَدة، ليس للشياطين وحسب، وهذا طبيعي، إنما للملائكة أنفسهم، خصوصا الملائكة المصرّين على السباحة في هذا البحر: فالاستمرار يقتضي أولا الدخول في العصابة، ومن بعد ذلك، منابع من "القوة". ومدعاة العجب أنه بعد انقضاء ما يقارب الثلاثة عقود على النّيل من اتفاقٍ أنهى الحرب الأهلية، يحضر السؤال نفسه عن حجم الكذب المنسوج حول رقاب قائليه ورقاب المصدِّقين به، وغير المصدِّقين.
أولاً، على مستوى صاحب الكذبة، صاحب السلطة، الذي يعِدنا بجنّات عدن، طبعا هو يكذب. حسناً. هل صدّق هو كذبته؟ وهذا سؤالٌ برسمه هو، أو برسم روائيٍّ صاحب خيال. أما متلقّي الكذبة، فمنقسمون: ثمّة من يصدّقها، يريد تصديقها. ولكن لماذا؟ بأية مصلحة؟ بأي إيمان؟ بأي مستوى من الإدراك؟ بأية حجة؟ وإذا أردتَ قياس نسبة المصدِّقين هؤلاء، فما عليكَ سوى إلقاء نظرةٍ على جماهير الطوائف المتلهّفة إلى مزيدٍ من الكذبات. كأن الاثنان يعيشان في عالم افتراضي واحد، مكوَّن من عالَمَين افتراضيَين: عالم اقتراضي حقيقي يُضاف إلى آخر، تكنولوجي، يحلّق في دواخلهما الاثنان، وهم في غاية السعادة ببعضهم.
فئة أخرى من متلقّي الكذبة، هم الذي يفتعلون التصديق، يتصرّفون وكأنهم يصدّقون. متى يكونون صادقين؟ مع أنفسهم؟ مع أقرب الناس إليهم؟ مع الدائرة المغلقة؟ خفّة الوجود لدى هؤلاء يغذّيها حبٌ مغشوش للحياة؛ تلك الحياة القائمة أيضا وأصلاً، على كذبةٍ، ولا تتْعب نفسك...
أما الذين لا يصدّقون، فإلى أية معانٍ يطمحون؟ يُبقون الشك في جيبهم وينطلقون؟ "يتكيّفون" مع جدائل الكذب، ويتعلمون كيف يكسبون منها؟ أم يحملون عصا النسّاك، وينسحبون إلى 
الأعالي، حيث الصفاء الخالص أقرب إليهم؟ أم ينْبشون شعرهم، ويرقّعون ثيابهم، ويتوهون في الشوارع متبرِّعين بحقيقتهم؟ فيبدون بدورهم كأنهم جزء من المشهد، "مجنون الضيعة"، جزء من الكوميديا المعدّة سلفاً، أو المرتجلة، مع بعض التنويعات التي لا بد منها، في بلد العجائب.
الحقيقة أن كل الأسهم النارية التي ضجّت بها العاصمة ليلة تشكيل الحكومة الجديدة، كل الضوضاء الذي رافقها، وقد حسبناه للوهلة الأولى الاعتداء الإسرائيلي المرتقَب.. كل الأسهم، كل الضوضاء، هما اللذان أعطيا معنى للحدث العظيم المتمثِّل في تشكيل الوزارة: إنها السخافة. سخافة الذين لا يستحون. وسخافة الذين يستحون من الذين لا يستحون.. عالم واحد، جاء بعد الحرب، زاخرٌ باللامعنى، بالسخافة. وأمجادٌ تُبنى على أكتاف هذه السخافة.