البحث عن "كوميديان" فلسطيني

البحث عن "كوميديان" فلسطيني

15 فبراير 2019

(كامل المغني)

+ الخط -
كان مسرح الدراما في الحي الثقافي (كتارا) في الدوحة، مساء يوم الجمعة الماضي، عامرا بالمتفرّجين على عرض "ستاند أب كوميدي"، للساخر الفلسطيني الثلاثيني علاء أبو دياب. كنا نحو خمسمائة مشاهد فلسطيني، وعدد من العرب. هذا جمهورٌ كبير لفعاليةٍ نظّمتها مجموعةٌ فلسطينيةٌ شبابيةٌ (الروزنا)، بحشد الأصدقاء والمعارف، وبسقفٍ للحضور لا يُسمح بتجاوزه. غادر أبو دياب، في اليوم التالي، إلى بيروت، ليقدّم عرضا فيها. قرأنا أن مسرح المدينة هناك ضاق بالوافدين إليه، فلسطينيين ولبنانيين، افترش كثيرون الدرجات، وجيء بمقاعد إضافيةٍ لتسهيل الحركة، بل ضاقت الأمكنة بتلك المقاعد، فاعتلى بعضُها جنبةً من خشبة المسرح، وكانت البطاقاتُ قد نفدت سريعاً، وهناك من جاؤوا من دون بطاقات، عساهم يعثرون على أمكنةٍ للوقوف.. الأمر لافتٌ، ذلك أن علاء أبو دياب بلا عمر فنيٍّ، فهي نحو اثني عشر عرضا في مدن عربية وأوروبية (يقيم في السويد)، في أقل من عامين، ازدحم الجمهور فيها ونفدت البطاقات المبيعة في بعضها بسرعة، وذلك بعد نحو عامين من حضورٍ في "السوشيال ميديا"، في لوحاتٍ كوميدية قصيرة. يزيد من "غرابة" المسألة أن ما استمعنا إليه في الدوحة، وما استُمع إليه في بيروت، كان حديث علاء أبو دياب عن نفسِه، عن وصولِه إلى العاصمتين، وإقامته في السويد، ودراسته في المدرسة، ومشاهداتِه في طفولته، ومقاطع قريبة وبعيدة عن شخصه. ولكنه يحكي هذا بنباهةٍ، وبالتقاط المفارقات ومواطن السخرية والإضحاك، وبالإحالة إلى إشكالاتٍ هوياتيةٍ وسياسيةٍ ببساطة. أضحكنا، وأضحكنا كثيرا في بعض ارتجالاته العفوية.
ما الذي جعل علاء أبو دياب يُحرز، في هذه المدة، القياسية في قصرها، هذا الجمهور (الفلسطيني خصوصا)؟ ما السبب الذي جعل الفلسطينيين، أكثر من سبعين عاما (مثلا) لا يخرج منهم "كوميديان"، نجمٌ في المسرح والسينما والدراما؟ برز منهم أعلامٌ لامعون في الأدب، وفي الكتابة للمسرح، وفي التشكيل والموسيقى والتمثيل، ولهم إسهامٌ في نشأة السينما العربية، غير أنهم عجزوا عن أن يظهر منهم فنانٌ باهرٌ في الهزل والكوميديا والإضحاك. لم يُعرَف بينهم أحدٌ مثل شوشو اللبناني وإسماعيل ياسين المصري ودريد لحام السوري وموسى حجازين الأردني. ولكن، يُمكن الرد على هذا السؤال بسهولة: أين الكوميديانات، الجزائري والعراقي والسوداني..؟ في كل بلد عربي مواهبُ وقدراتٌ وطاقاتٌ فنيةٌ ممتازة، غير أن البيئات العامة قاصرةٌ عن تأهيل الكفاءات وترويجها، والفلسطينيون الذين لم يعرفوا دولةً بعد، ولا عهدوا مؤسّسيةً مستقرّةً، ويتوزّعون بين احتلالٍ لم تتوقف اعتداءاتُه وشتاتٍ عريض، ليس في وسعهم أن يقيموا مقاولاتٍ إنتاجيةً كبرى، من شأنها أن تساعد في صناعة نجومٍ في قطاعات الفنون المشهدية، السينما والمسرح خصوصا.
ربما يكون في هذه الإجابة ما يُسعف في "تفسير" افتقاد الفلسطينيين مسرحا كوميديا، أو مراكمةً لمنتوجٍ فنيٍّ مشهدي كوميدي.. ربما. ولكن، يجوز الذهاب، أيضا، إلى أن مستجدّا جوهريا وانعطافيا يحدُث، منذ نحو عقدٍ تقريبا، موجزُه أن وفرةً صارت تتحقّق لكوميديا فلسطينيةٍ راهنةٍ، مستقلةٍ غالبا. والحديث هنا يتعلق بظاهرة إطلالات الفكاهة والكوميديا والإضحاك غير القليلة في فلسطين المحتلة، في مواقع في "يوتيوب" أنشأها شبابٌ موهوبون، لم يوفّروا شيئا في الحال الفلسطيني إلا وأعملوا فيه سخريةً وانتقادا. وأظن، وأنا معلقٌ فحسب ولست متابعا مختصا، أن حلقات "وطن ع وتر" و"هي هيك"، للممثل والكاتب عماد الفراجين وزملائه (بينهم الممثلة منال عوض)، في "يوتيوب"، ثم في تلفزيون فلسطين الرسمي (أوقفها النائب العام مرّة)، وفضائيات محلية فلسطينية، وأردنية خاصة، كانت جوهريةً في المتحدّث عنه هنا. كما أن مواهب محمود زعيتر ومحمود رزق (وغيرهما)، وأيضا ما تصنعه إلهام الكحلوت بشجاعة في قطاع غزة، في أعمالٍ ساخرةٍ، وارتجاليةٍ وناقدة، في برامج وعروض متنوّعةٍ في "يوتيوب" وتلفزاتٍ محلية، تدلُّ على أن الفضاء الفلسطيني سيظهر فيه الكوميديان النجم، وإنْ يتطلبُّ الأمر التفاتا من فضائياتٍ عربيةٍ، مغامرةٍ، تتوجّه إلى الاستثمار في هذه الكوميديا الفلسطينية الناشطة (المتباينة المستوى طبعا).. وهذه ظاهرة علاء أبو دياب، كما أشارت إليها أمسيتان في الدوحة وبيروت، تدلّ على أن النجاح في هذا الرهان مؤكّد.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.