بين صحافة الموائد وحقول الألغام

بين صحافة الموائد وحقول الألغام

13 فبراير 2019
+ الخط -
في الطائرة المتجهة من الدوحة إلى وارسو، لم أصادف أي أمير، أو وزير، أو ملياردير. ألا يذهبون إلى هناك؟ تساءلت، وقد راودني بعض ظنٍ بأني ربما أكون قد جلست إلى جوار أحدهم، فما عرفته ولا عرفني، ولا حظيت بفرصةٍ لأتجاذب معه أطراف حديث يصلح لأكتب عنه مقالتي الأسبوعية، على غرار ما يفعل ذلك الكاتبُ الصحافي العربي الذي ما انفكّ ينشر كلاماً مكرّراً، عن مصادفات رحلاته وأسفاره، بين عواصم الشرق والغرب، معيداً تذكير الناس، في كل مرة، بأنه يتمتّع بعلاقات "خوش بوش" مع أفراد العائلات المالكة والحاكمة في بلاد العرب، حتى أنه يضطر، أحياناً، على الرغم من ضيق وقته، إلى تلبية دعوات إلى العشاء، في لندن وباريس ونيويورك، يتلقاها ممن يلتقيهم بين المسافرين على الدرجة الأولى، وهو ما يستدعي من قرّائه أن يستعدوا ليجلدهم، في اليوم التالي، بمقالةٍ أخرى من الطراز ذاته، مع احتمال أن يزيد عليها عباراتٍ تشيد بالذوق الرفيع الذي تتمتع به السيدة حرم صاحب الدعوة، وأنواع الطعام الشهي الذي أمرت بتحضيره، وسحر المكان الذي اختارته.
على أي حال، ما عن هذا كنت أود أن أكتب، لكن طريقة الزميل المخضرم فرضت نفسها خياراً وحيداً أمامي، لأهرب إليها، من دون وعي، بمجرّد أن فتحت كمبيوتري الشخصي، وحاولت البدء بكتابة مقالةٍ عن "مؤتمر وارسو حول مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط" الذي قطعتُ آلاف الكيلومترات، من الخليج العربي إلى شمال أوروبا، لأغطي، بل لأكشف الغطاء، إن استطعت، عن خفايا ما بدا غموضاً متعمّداً، ظل يحيط به، وبأهدافه، كما بمستوى تمثيل الدول العربية المشاركة فيه، منذ دعت إليه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحتى ما قبل أربع وعشرين ساعة من موعد افتتاحه في العاصمة البولندية.
لا معلومات مؤكدة توفرت لنشرها وقراءتها وتحليلها، طوال الأيام التي سبقت الحدث الغامض، سوى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيكون أرفع مسؤول سياسي يشارك فيه، إلى جانب مضيفه الرئيس البولندي، أندجيه دودا، وأنه سيلقي كلمةً أمام ممثلي ستين دولة مشاركة، منها اثنتا عشر دولة عربية، ويفصح فيها، على الأرجح، عما يستهويه في طبخةٍ كبرى، تفوح رائحتها، منذ نحو سنتين، ويقال إن غرضها تصفية القضية الفلسطينية، على أساس ما تسمى صفقة القرن، من أجل أن يتفرّغ الجميع لما هو أهم، من زاوية نظر تل أبيب وواشنطن، على الأقل، أي تشكيل تحالف إقليمي، ذي عمق دولي، لمواجهة إيران.
وإذا ما أضفت إلى هذه المعطيات أنباءً أخرى، عن نشاطات يتصدّرها نتنياهو، ومنها افتتاح المؤتمر بصورة عائلية تذكارية، واعتزام صهر الرئيس ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، إعلان شيء من تفاصيل ما تسمى صفقة القرن خلال جلساته، فضلاً عن تنديد القيادة الفلسطينية به، ثم زيارة الرئيس محمود عباس إلى السعودية، عشية انعقاده، يصير من الأسلم لكاتب هذه السطور أن يعود، مجدّداً، إلى طريقة صاحبنا إياه، ويحدّثكم مثله، عن دعوةٍ إلى العشاء تلقاها، هو وزملاء آخرون، من سفير عربي في وارسو، وفاضت مائدتها بما لذَّ وطاب من المأكولات.
لكن عدم الخبرة في هذا المضمار من الكتابة يجعل من الصعب الاسترسال بجملةٍ أخرى، سوى الامتنان لكرم الرجل، وسعة صدره في الرد على التساؤلات الشائكة التي طرحتها عليه، بينما لا يزال ينقص هذه المقالة نحو خمسين كلمة لتكتمل، وما من خيارٍ أمام كاتبها غير إتمامها بعيداً عن صحافة الموائد، وقريباً من حقول الألغام، بتأملٍ عاجل في رمزية المكان؛ هنا بولندا التي كانت مسرحاً لما يُروى عن جرائم النازية ضد اليهود، يُراد لها أن تكون مدخلاً للتحالف العربي مع إسرائيل، بعد سبعين سنة من تكفير الأوروبيين عن ذنبهم، بدعم إقامة الدولة ذاتها. وفي المرتين، على حساب الشعب الفلسطيني. فمن من بين العرب سيجرؤ على الرفض، ومن سيجرؤ على القبول؟
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني