مندسّون بلا حدود

مندسّون بلا حدود

10 ديسمبر 2019
+ الخط -
قبل اندلاع ثورة الربيع العربي الذي يواصل تجديد نفسه بدينامياتٍ أكثر كفاءة وأشد فاعلية، كان مبنى العلاقة التاريخية بين الدولة المتسلطة ومواطنيها المقموعين قائماً على أرضية قوامها التخويف والترهيب من جهة الدولة مرهوبة الجانب، مقابل الخشية والإذعان وطلب السلامة من جهة المواطنين المغلوبين على أمرهم، وهو ما أدّى إلى تراكم عوامل الكبت والقهر، وعمق مشاعر الظلم، وأوغر في الصدور على الأوليغارشية الحاكمة التي تمادت في الفساد والاستبداد، وأمعنت أكثر في مصادرة الحريات، وبالغت في الافتئات على أبسط حقوق الناس.
مثل هذه العلاقة المتوارثة في جمهوريات الصمت والرعب، المبنية على أدوات الإسكات والبطش، انقلبت رأساً على عقب، بعد اندلاع الثورات الشعبية المتجدّدة في العالم العربي، وصارت صدى صوتٍ من ماضٍ غير تليد، حيث باتت الدولة بمفهومها الأبوي البطريركي، وتراثها الماضوي، هي التي تخشى مواطنيها، وتتحسّب من إثارة غضبهم، وتحاول ما في وسعها استرضاءهم بكل السبل، بل والاعتذار لهم، حتى لا نقول التزلف لهم، تماماً على نحو ما فعله زين العابدين بن علي في أول فصلٍ من هذا الربيع المديد، عندما خاطب التونسيين قائلاً: الآن فهمتكم.
ولعل هذا الانقلاب الدراماتيكي في العلاقة بين الحكّام والمحكومين في الديار العربية، هو الجذر العميق للمصطلح اللغوي المتداول بشدة في الخطاب الرسمي الراهن لمفردة "المندسّين"، حيث لم يعد في وسع متسلّطٍ على رقاب العباد، بعد أن شاهد ميادين التحرير وساحاتها تغصّ بمئات ألوف الهاتفين ضده بالفم الملآن، تبرير تمسّكه بصولجان السلطة، والنوم على حريرها إلى الأبد، سوى الزعم إن "المندسّين"، وليست الجماهير المضللة، هم الخارجون على سلطة النظام والقانون، وإن هذه الفئة القليلة هي التي تغامر بحاضر الوطن الآمن، وتهدّد مستقبله الواعد!
ويظل السؤال مطروحاً، من هم هؤلاء "المندسّون" حسب رواية المنقطعين عن الواقع، المصابين بداء الإنكار العضال؟ ليست هناك حاجة للعودة بعيداً إلى الوراء، للوقوف على مدى سذاجة ما نسمعه اليوم من هذيان وترّهات ضد الثوار، أو على سخافة ما يرمون به من اتهامات، إذ يكفي استرجاع ما تقوله المنظومة الحاكمة في بيروت وبغداد، صباح مساء، ومن خلفهما طهران بالطبع، كي نفهم مدلولات مصطلح "المندسّين"، هذا الذي شاع في مطلع الثورة السورية المغدورة، حيث يتم تعريف المنتفضين في لبنان أنهم أصحاب أجندات خاصة وعملاء سفارات، ويشخَّصون في العراق طرفا ثالثا مجهول النسب، فيما يجري تصنيفهم من ملالي إيران أحفادا لمعاوية ويزيد والحجاج، وأبناء لصدّام، أو خونة وجواسيس.
والحق، أن حزب الله وحلفاءه في لبنان بدوا أقل غلواً في معاداتهم الثوار في البلد الواقع في قبضة الولي الفقيه، قياساً بما بدا عليه الخطاب الإيراني المفعم بالهجاء، فقد كانوا في بيروت على شيءٍ من الخجل والارتباك، بل وأظهروا بعض التفهم لمطالب المحتجين في الساحات، عندما بدأوا حملة تخويفٍ وترهيبٍ متفرّقة، تخللتها هجمات صغيرة قام بها شبيحة يركبون الدراجات النارية، ضد من أطلقوا عليه اسم "الحراك"، وتجنّبوا تسميته انتفاضة أو ثورة طوال الوقت، فيما ظلوا على موقفهم إزاء "المندسّين" الممولين من السفارات، ممن حرفوا التظاهرات المطلبية عن مسارها البريء.
وقد بدا الأمر في العراق على النحو ذاته في لبنان، مع ميلٍ إلى العنف المفرط واستخدامٍ كثيفٍ للنار ضد المحتجين، إذ ظلت حكومة المليشيات تزعم إنها مع حق التظاهر السلمي، في وقتٍ كانت تقتل العشرات منهم كل يوم، وتدّعي براءتها من سلسلة مذابح مروعة أودت بحيوات نحو500 شخص، والحبل على الجرّار، أي أن حكومة الحشد الطائفي في بغداد كانت، وهي تُلقي باللوم على "المندسّين" الأوغاد تحاول التنصل من الوزر، وتتحاشى التصعيد، على الرغم من فائض التحريض لها على اعتماد وصفة الحرس الثوري المجرّبة أخيرا في طهران والأحواز وشيراز، في فض الاحتجاجات بالحديد والنار.
والحق أن منظمة "أطباء بلا حدود"، ونظيرتها "مراسلون بلا حدود"، وغيرهما أوحتا بالعنوان أعلاه "مندسّون بلا حدود"، فنحن أمام ظاهرة ثورية طويلة المدى، عابرة للحدود والأعراق والطوائف والمذاهب، نهض بها "مندسّون" وطنيون رائعون، ملأوا الشوارع الغضاب، وألقوا حجراً وراء حجر في بركة الشرق الأوسط الراكدة، إلى أن تبدل المشهد العربي الطاعن في الموات، الأمر الذي يستحق معه هؤلاء "المندسّون" التحية، وتتويج هاماتهم بأكاليل الغار.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي