الجريمة: كتاب

الجريمة: كتاب

28 ديسمبر 2019
+ الخط -
لماذا أنا هنا؟ طوال الوقت أبحث عن إجابة، ولا أجد؟.. يتساءل الناشر المصري، خالد لطفي، في رسالةٍ أرسلها من داخل سجنه ليقرأها شقيقه بالنيابة عنه في حفل تسلم جائزة فولتير من اتحاد الناشرين الدوليين في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
كثيرة السوابق التي تحدث في العهد الحالي في مصر للمرة الأولى في تاريخها، لكن العجب لا يزول من قضية لطفي. قبل أيام، رفضت محكمة النقض العسكرية الطعن المقدّم من خالد ضد حكم سجنه خمس سنوات، ليصبح الحكم نهائيا. تعود القصة إلى عام 2017، حين حصلت دار نشر تنمية على تعاقد مع الدار العربية للعلوم في لبنان لنشر طبعةٍ مصرية من الترجمة العربية لكتاب "الملاك" الذي يقدّم روايةً مفادها أن أشرف مروان، صهر الرئيس جمال عبد الناصر، كان جاسوساً لإسرائيل.
التزم لطفي بكل الإجراءات القانونية المطلوبة، أرسل نسخةً من الكتاب إلى الرقابة، ولم يتلق ردّا، ما يعني عدم وجود ممانعة. على الرغم من ذلك، تعرّضت المكتبة، بعد النشر، لحملةٍ من "شرطة المصنفات"، ثم تم إيلاغ خالد شفوياً بأن جهاتٍ أمنيةً غير راضية عن توزيعه الكتاب، وعلى الفور استجاب وجمع كل النسخ وأعدمها، ولكن هذا لم يغير مصيره.
في أبريل/ نيسان 2018، تلقى خالد استدعاءً من النيابة العسكرية، ولم يعد من حينها. احتفظت الأسرة بسرّية الخبر نحو عام، في محاولاتٍ لا تنتهي للتسويات الودّية، ومحاولة مفاوضة السلطات بالاكتفاء بـ "شدّة الأذن" هذه، من دون أن يخرج الخبر ليصبح محطّا "للاستغلال" السياسي والإعلامي، ولكن الحقيقة أن الرسالة كان مطلوباً أن تصل إلى الوسط الثقافي المصري بالكامل، بأكثر الطرق خشونة.
بشكل عام، لم تعرف الحياة الثقافية المصرية بتاريخها هذا النوع من الأحكام القاسية ضد مؤلف أو ناشر، بسبب ما يتصل بعملهم، حتى في أحلك لحظات عصور عبد الناصر أو أنور السادات أو حسني مبارك، دائماً ما كانت تمتد اليد الرئاسية الحانية، أو غيرها من الأيدي، لإيقاف الصخرة في اللحظة الأخيرة قبل السحق. النموذج الأبرز أخيرا كان قضية الروائي أحمد ناجي المتهم بـ "خدش الحياء"، وحُكم عليه بالسجن عامين، أمضى منهما نحو عام، وكانت هذه سابقة بحد ذاتها، ولكن المستقبل كان أكثر سوادا.
لم يعبأ صانع القرار بأن ما حدث زاد من الشعبية الواسعة للكتاب على شبكة الإنترنت، فضلا عن الفيلم الذي أنتجته "نتفليكس" وشاهده الملايين. كما لم يعبأ بأن ما حدث للطفي يعزّز ضعف الرواية المصرية، مقابل الرواية الإسرائيلية المتماسكة. يقدّم مؤلف الكتاب، الضابط السابق، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة حيفا، يوري بار - جوزيف، روايةً استخدم فيها مقابلاتٍ مع شهود عيان من جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) تعاملوا مع أشرف مروان، وكذلك سرداً تفصيلياً لتواريخ الأحداث وللوثائق السرّية المصرية التي قدمها مروان. في المقابل، لا تخبرنا الرواية المصرية عن "الجاسوس المزدوج" حرفاً، أين شهادة الضباط المصريين المسؤولين عن هذه العملية المفخرة؟ هل قدّم فعلاً الوثائق المذكورة جزءا من الخداع أم لم يفعل؟ أسئلة بلا إجابة، كسؤال خالد.
ولكن في وسعنا تخمين سبب اختيار خالد لطفي تحديداً، فعبر السنوات الأخيرة كان قد رسّخ لنفسه مكاناً مميّزاً للغاية بفضل مكتبته التي تحوّلت إلى أحد أهم مراكز توفر الكتب العربية، بدلا من انتظار المثقفين المصريين لها في معرض القاهرة الدولي عاماً تلو عام، وكذلك بفضل سمات البشاشة واللطف التي تميّز شخصية لطفي، ونقلها إلى العاملين في مكتبته. شخصيا، لم أكن أفوّت دخول المكتبة في أي وقت مررت على مقرّها في "وسط البلد" بالقاهرة، ولو للاطلاع على العناوين، والسلام على الموجودين أيا كانوا. ولعل هذه السمات تحديداً كانت سببا في تعمّد أن تصل الرسالة القاسية بأوضح طريقة ممكنة إلى كامل الوسط الثقافي المصري. لا ملجأ ولا منجى من الرقابة العسكرية، بل والذاتية قبلها.
كتب خالد لطفي في رسالته: "وبينما أنا أكتب إليكم من زنزانةٍ مظلمةٍ، ما زلت أتطلع إلى النور".