ظلم المساواة في ليبيا

ظلم المساواة في ليبيا

18 ديسمبر 2019
+ الخط -
من بين أسوأ ما قد يُرتكب لدى تناول قضية ما استسهال إراحة الضمير من دون بذل أي جهد أو تفكير، عبر توزيع المسؤولية بالمساواة تلقائياً على طرفَي النزاع. لا تندر الأمثلة. من بينها ما يحصل في التعليق على حرب خليفة حفتر المدفوعة، أو على الأقل المدعومة من محور السعودية ــ الإمارات ــ مصر ــ فرنسا ــ روسيا على الغرب الليبي، وفي القلب منه طرابلس. 
ليس صحيحاً أن كل ما يحصل اليوم في ليبيا هو فقط حرب بين مليشيات متشابهة في الجوهر، انقسمت على نفسها لتتقاتل على النفوذ وللانتقام ولتوسيع قاعدة مصالحها، مع أنه صحيح جداً أن ليس في الحروب الليبية على اختلاف أشكالها منذ سقوط القذافي، ما يترك في الذاكرة أي محطة مضيئة، وليس فيها ما كان يسميها لينين "حروبا حميدة" لتمييزها عن حروب الدول الإمبريالية في ما بينها. صحيحٌ أن ما يحصل منذ سقوط القذافي حفلة جنون مليشيات تضم إرهابيين وعصابات في المعسكرين، وجدت نفسها في صحراء سياسية قاحلة، معها سلاح كثير تركه لها العقيد، رئيس العصابة الأساسية، بلا أحزاب، بلا ثقافة عمل سياسي متجذر ولا نقابات، بلا مشاريع غالباً، ما خلا نزعات انفصالية بين شرق وغرب وجنوب، وأحقادا تاريخية ومناطقية وقبلية وإثنية، والكثير الكثير من المطامع الأجنبية، عربية وغربية بالبلد الذي يوفر 9% من حاجيات أوروبا من النفط، وبطرق مرور فقراء أفريقيا إلى الموت في البحر أو إلى بلوغ البرّ الأوروبي. ذلك كله صحيح، إلا أن الصورة القاتمة تلك لا تكفي لمساواة الطرفين بالمسؤولية عن الحرب الدائرة اليوم، أي حرب خليفة حفتر على طرابلس، بما نعرفه عنه من تاريخ دموي متنقل من جلباب القذافي إلى مدن أميركا التي يحمل جنسيتها، وصولاً إلى اعتماده وكيلاً حصرياً لمحور عربي ــ غربي لطالما بحث ولا يزال، في كل بلد عربي، عن حاكمٍ بمواصفات خليفة حفتر: عسكري دموي بولاءات متعددة، مهووس بمحاربة الإسلاميين، ويكثر من قراءة تقارير تعلّمه كيف يجذب اهتمام حكّام الغرب اليوم: محاربة الإرهاب، محاربة الهجرة السرية، التمتع بقبضة حديدية صالحة لبلدان لا تستحق الديمقراطية برأي الغرب ذاك، قبضة تكون قادرة على ضبط أمن منابع النفط وتأدية المهام القذرة نيابة عنه في التخلص من طالبي اللجوء قبل وصولهم إلى الجهة المقابلة من اليابسة.
الفارق واضح بين حفتر والمعسكر الآخر الذي يقوده فائز السراج، لا في "نوعية" المليشيات التي تشكل جيش كل منهما، فكلها مليشيات ومتشابهة على الأرجح، بل في ما يريده كل منهما ومن يقف خلفهما من الداخل والخارج. ليس فقط أن السراج غير عسكري، وهذا بحد ذاته بداية مقبولة للتقييم في حالات عربية كثيرة، بل إنه رئيس هيئة اعترفت بها الأمم المتحدة مجتمعة مجسدا وحيدا للشرعية الليبية التي يؤمل أن تولَد. هو الذي اتفقت أن تعترف به كل الأطراف المعنية بالحروب الليبية في مؤتمر الصخيرات أواخر عام 2015. وليس السراج بل حفتر هو من انقلب على اتفاق الصخيرات ذاك، بحجة أنه لا يعطيه هو شخصياً قيادة الجيش ووزارة الدفاع، ولا يعفيه من إلزامية تنفيذ أوامر السلطة السياسية. كيف تستقيم المساواة في الحكم على طرفي الحرب، السراج بمن يمثل، وحفتر بمن يمثل، حين يكون الدعم المصري ــ الإماراتي ــ السعودي ــ الفرنسي ــ الروسي للثاني علنياً بهذا الشكل بالمال والسلاح والمقاتلين والطائرات، في حين يتلعثم المسؤولون الأتراك المتهمون بدعم الطرف الأول، السراج وحكومته؟
إحدى مشكلات الحرب الليبية الحالية أن هناك محوراً حقيقياً واحداً يقف خلف أحد طرفي الحرب، بينما الجبهة المقابلة تدعم بالتهديد والتلويح والتصريح، من دون فعلٍ يعيد التوازن العسكري لفتح مجال التوصل إلى حل سياسي ما. مثلما حصل في أماكن أخرى، يقف التركي متردّداً في دعمه، في حين يجاهر الطرف الآخر ويبادر في تغذية آلة القتل. حصل ذلك في سورية وهو يتكرّر اليوم في ليبيا.
ليس في تمني حصول تدخل عسكري في أي حرب شيئاً من الأخلاق، فليس هناك حروب حميدة في مقابل حروب حرام. الحرب هي الحرب، هي قتل وعذاب ودمار وكوارث وكل ما هو شرّ في هذه الدنيا. ولكن لا يُلام أحيانا من يتمنّى حصول تدخل عسكري حين يكون هناك احتمال بأن يقصّر من فترة الحرب.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري