لا مذهب للسلطوية

لا مذهب للسلطوية

09 نوفمبر 2019
+ الخط -
قديما قال سقراط: تكلّم حتى أراك. واليوم تعلمنا السياسة: ثوروا حتى تروا زعماءكم. مثلت مواقف المرشد الإيراني خامنئي، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، من الحراك في لبنان والعراق، صدمة لقطاع واسع من جمهورهما في العالم العربي، الجمهور الذي طالما تغنّى بالممانعة معياراً واحداً لخط الصواب وخط الخطأ. 
في حديثه قبل أسبوع، وصف المرشد ما يحدث في العراق ولبنان بـ"أعمال شغب وانعدام أمن"، وحمّل المسؤولية لأطراف خارجية، مؤكّداً أن ما يحدث يموّل "بأموال بعض الدول الرجعية". وحذر خامنئي: "أكبر ضربة يمكن أن يوجهها الأعداء إلى بلد هي أن يسلبوه الأمن". ومع تأكيده على تفهم المطالب المشروعة، قال إن على المتظاهرين الالتزام "بالأطر والهياكل القانونية"، محذراً من حدوث "فراغ" في البلاد.
تحدث نصر الله في السياق نفسه ثلاث مرات، متدرّجاً من التلطف نحو مطالب المظاهرات، إلى القول إنها فقدت عفويتها وانحرفت عن مسارها، وكرّر التحذير من خطر "وقوع البلاد في الفوضى". وللمفارقة في خطابات عبد الفتاح السيسي، أخيرا، استخدم عبارات شبيهة بما استخدمه نصر الله وخامنئي، بل إن بيان النيابة المصرية عن المعتقلين في تظاهرات سبتمبر اشتمل أيضاً الحديث عن حسني النيّة من المغرّر بهم.
وكان لافتا تمسك نصر الله بعدم التراجع، ولو لنصف خطوة شكلية. صرّح الرجل برفضه استقالة الحكومة، أو حتى إجراء تعديل وزاري، وضمنيا هو هنا يتعمّد الاستماتة في التمسّك بأكثر حلفائه إثارة لغضب المتظاهرين، جبران باسيل، وهو للمفارقة صاحب التصريحات الأكثر حدّة ضد الفلسطينيين. وحسب تقرير نشرته "رويترز"، ألحّ حسين الخليل، معاون حسن نصر الله، على الحريري بالثبات مكانه، قال له: "نحن حدّك (بجانبك). خليك قوي!". بل قال نصر الله إن الحراك في الشارع يتلقى تمويلاتٍ، مطالباً المظاهرين بالتأكد لو كان المال يأتي من فاسدين أو من "سفارات". من يقول هذا هو من قال نصاً في خطاب متلفز عام 2016: " نحن يا خيي على راس السطح موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران". وكان من اللافت مخاطبة نصر الله قواعده بصراحة تامة أن الموظفين مهدّدون بفقد رواتبهم، أما رجاله فلهم ضمان مختلف: "حتى لو ذهبت البلد نحو الفوضى؛ فالمقاومة ستبقى قادرةً على دفع المعاشات".
ليس بالضرورة أن تسفر الحراكات في لبنان والعراق عن هزيمة السلطتين، فكلاهما أعمق من حاكم فرد مستبدٍّ معزول، بل من المنصف القول إن كلا منهما يقدّم تمثيلاً متجذّرا لفئات شعبية واسعة بدورها، وقد شهدنا كيف استدعى جبران باسيل جمهور التيار الوطني الحر إلى التظاهر، لكم شعبكم ولي شعبي، شارع أمام شارع. إلغاء النظام الطائفي سياسيا يتطلب أن يكون قد تم بالفعل إلغاؤه اجتماعياً إلى حد كبير، وهو ما لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها.
ولكن في المقابل فإن ما يحدث أبعد بكثير من خيال أي مراقب، ومؤشّر على ميلاد جيل جديد. جيل تحدّى، بشكل متعمد ومباشر، الأزمة الطائفية المزمنة في منطقتنا، فتخرج مظاهرات السنة ضد سعد الحريري، ويهتف المسيحيون ضد ضد ميشال عون. جيل تجاوز خطاب تنزيه محور "الممانعة" لمن لم يكن قد تجاوزه بفعل بشار الأسد. جيل أكثر خبرة، وتحديدا لمطالبه من جيل 2011، كما اتضح في القصف الخطابي اللبناني ضد "حكم المصارف" أو في العراق ضد الفاسدين وداعميهم.
أتت الأحداث ليظهر التشابه بين السلطويات من كل الأطراف، وليظهر أن المعيار الحقيقي للمفاصلة هو المطالبة بالديمقراطية الآن وهنا. وبوضع الأحداث في سياقها الأوسع، يتأكد أنه لم يعد ممكنا استمرار النظام العربي، بسلطويته السياسية، أو بطائفيته المجتمعية، بما عهده بالعقود الماضية. لا استقرار من دون معالجة جذور المطالب الشعبية، والتي ما إن تُسحق في دولةٍ حتى تظهر في أخرى، وما أن ينكسر جيل، حتى يخرج من بعده جيل تالٍ. حركة التاريخ لا تتوقف، وإن أبطأت.