الصين.. تلك الأرض البعيدة

الصين.. تلك الأرض البعيدة

24 نوفمبر 2019

مشهد في بكين (19/11/2019/Getty)

+ الخط -
إنما هو بعدُها، مع مشقّة الوصول إليها، ذلكما الموحَى بهما في الحديث النبوي الذي يحثّنا على طلب العلم ولو في الصين. وفيما قال الرسول الكريم لنا هذا قبل قرون، فإن الصين، البلد الثقيل القيمة والمكانة في العالم الراهن، ما زال يبدو بعيدا عنا، نحن العرب، لا بسبب مفازات الجغرافيا، فثمّة بلادٌ أبعد عنّا منها، وإنما لغير سببٍ وسبب، ربما منها لغة أهلها الصعبة، واختلافات الأمزجة والأذواق وغيرها، هذا ونحن وإياهم من شعوب الشرق. كما أن حديثَنا، نحن العرب، عنهم لا يفتّش عن جوامع أو مشتركاتٍ بيننا، راهنة أو عتيقة، وإنما غالبا ما يذهب إلى غرائب بلدهم وأعاجيبه، مطبخهم ومأكولاتهم، التشابه المهول بينهم، كأن سحنةً واحدة لهم. نزاول أحيانا استشراقا عليهم، وهو ما لا نفعله مع الأميركيين مثلا، وبلاد هؤلاء أبعد عنا من "إقليم الصين"، بحسب مسمّى ابن بطوطة الذي كتب، من بين ما كتب في "تحفته"، عن بلدِهم الذي زاره، إنه كان يظن أن الإجاص العثماني الذي بدمشق لا نظير له حتى رأى الإجاص الذي في الصين. وقد جاء جغرافيون مسلمون وعربٌ قدامى على أرض الصين في درْسهم بلاد الدنيا وشعوبها، سيّما وأن مدينةً في أقصى غرب الصين الحديثة، اسمها كاشغير، هي آخر ما وصل إليه الفتح الإسلامي في آسيا شرقا، لمّا صهل فيها حصان قتيبة بن مسلم الباهلي (ولد في العام 48 هجرية)، على ما كان يردّد صديقنا الباقي خيري منصور، مزهوّا بهذا القائد الذي تسمّيه مطالعاتٌ منشورة "فاتح الصين الأعظم". ومؤكّد أن ذلك الصهيل قد صار هناك في أرض هذه البلاد، غير أنه ليس مؤكّدا تماما ما تذكرُه مروياتٌ عن ثلاثة مبعوثين أوفدهم النبي إلى ملك الصين، ومات أحدهم هناك، وباسمه مسجدٌ ما زال قائما. وبذلك يكون المسلمون القدامى قد وصلوا إلى الأرض التي أوحى ببعدِها الحديث النبوي الشهير عن طلب العلم، ما أبقاها ربما في أفهامنا ومداركنا ومخيلاتنا بعيدة. نقول هذا ونحكيه، وكأن الراهن الذي نقيم فيه موروثٌ من سندباديات ألف ليلة وليلة، ولا يأتي إلى خواطرنا أن منظورَنا إلى الصين بعيدةً ينطوي بداهةً على أننا بعيدون في خواطر أهل تلك البلاد.
تطوفُ في أخيلتي، أو في ظلالها ربما، أفكار مثل هذه، وتتداعى كيفما اتفق، وأنا في الطائرة، أسافر من بكين (أو بيجين) إلى مدينة زوهاي في جنوب الصين، والمسافة بينهما في الوُسع تقديرها إذا كانت ثلاث ساعات ونصف الساعة هي زمن الوصول إلى هناك، على متن طائرةٍ للخطوط الصينية، مطمْئنةٍ ومتقشّفة. أقرأ في الأثناء في كتاب أهديتُه، يضم قصائد مختارة، سمّاه صاحبه الشاعر الصيني، شي شوان، "معابد معتمة"، وأصادف سطرا شعريا في قصيدة له عنوانها "أطلّ من بعيد" (نقلت النصوص من الصينية جيدا إلى العربية يارا المصري) "إزاء البعيدين، نحن بعيدون". وهذا صحيحٌ. بل إنه على الرغم من كل علاقات السياسة والبزنس والتجارة بين الدول العربية والصين، ومع عادية وجود صينيين زائرين أو سياح أو مقيمين عاملين في بلادنا، في الخليج والمغرب والشام ومصر، إلا أن شعورا يتوطّن فينا تجاه بلدهم بأنها بعيدة، غريبة، عجيبة، مجهولة. والظاهر أن جهود الدبلوماسية الثقافية المتبادلة بنشاط كبير، وتبادر إليها سفارات الصين منذ نحو عقدين، صارت تُسعفنا بمعرفةٍ أقرب بهذا البلد وناسه، وإنْ تلزم لهذا الأمر جهود أكبر وأكثر.
من هنا، في بكين، حيث تنكتب هذه السطور، في وسعي أن أزعم أن بُعد الصينيين عنّا، نحن العرب، فادح، أكثر من بعدنا عنهم. وهم بالمناسبة شعبٌ صديق، وبلدهم كان من أهم أصدقائنا، ومن أبرز مناصري قضايانا العربية، قبل أن "نخسره"، على ما يذهب أكثر من عارفٍ، ما يعود إلى حزمةٍ من الأسباب، أولها أننا صرنا أقلّ قيمة في العالم، وأن إسرائيل أشطر منا وأبرع، وهذه قصةٌ شرُحها يطول. من بين كثيرٍ دلّ على بعاد أهل الصين عنا ما استشعرتُه من فقرٍ كثيرٍ في معرفة نخبةٍ من شعراء وكتاب وقصاصين وأساتذة جامعيين، التقيتُهم وحاورتهم، مع زملاء من الأردن ومصر، بآدابنا وفنوننا وأعلامنا. ولكن ماذا أعرف أنا عن كتّاب الصين وفنانيها ومبدعيها الراهنين والقدامى؟ يمنعني الحرج من الإجابة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.