شبح دفرسوار فلسطيني

شبح دفرسوار فلسطيني

19 نوفمبر 2019
+ الخط -
لا تحتفظ الذاكرة الشخصية، ولا الأرشيف الخاص بمدوّنات الثورة الفلسطينية، بمثل هذه السابقة غير المسبوقة في تاريخ المعارك والحروب التي خاضتها الفصائل الفدائية ضد هجوم خارجي، أي ترك فصيل بعينه يواجه عدواناً بمفرده، سيما إذا كان العدوان إسرائيلياً سافر الوجه، وذلك انطلاقاً من شعورٍ فلسطينيٍّ راسخ بوحدة المصير، وحسٍّ جارف بالوحدانية، والقلة العددية أمام الخطر المشترك، ناهيك عن إدراك الجميع حقيقة أن إضعاف طرف، حتى وإن كان على خصومةٍ سياسية مع الآخرين، إضعاف لمقومات الوجود الفلسطيني كله. 
ما حدث في غزة، طوال خمسين ساعة عصيبة، واجهت فيها حركة الجهاد الإسلامي عدواناً إسرائيلياً مبيتاً، من دون فزعة عسكرية من شركائه فيما تسمى "غرفة العمليات المشتركة"، سجل واقعةً لا نظير لها على مدى العقود الطويلة الماضية، إن لم نقل صدمة شديدة، ليس لبيئة هذا التنظيم الموصوف قوة عسكرية ثانية في قطاع غزة المحاصر، وإنما لجميع من لم يساورهم الشك يوماً أنه في حضرة الدماء المسفوحة، ومهابة الموت الجماعي، تتساقط الحسابات الصغيرة، وتتقدّم الاعتبارات الكلية الجامعة، ويعلو لدى المستهدفين الشعار الممضّ "يا وحدنا".
ومن غير أن يتبنى المرء أفكار "الجهاد" الملتبسة، أو يتفهم ارتباطاته الإيرانية المريبة، ومع الإدراك المسبق لحقيقة أن غزة فيها ما يكفيها وأزيد، إلا أن ترك الفصيل الثاني عسكرياً في القطاع يواجه أقداره بمفرده، ويقلع أشواكه بيده وحيداً وحدة السيف في غمده، كان أكثر من خطأ استراتيجي، وأشد من سقطةٍ سياسيةٍ موصوفة، سيما وأن هذا التنظيم الذي لم يكن في وضع المبادر هذه المرة، لم يكن في وسعه، والحالة هذه، سوى الرد على اغتيال رئيس أركانه في غزة، واستهداف رئيس مجلسه العسكري في دمشق في آن واحد.
وأحسب أن هذه السابقة المشينة في تاريخ الكفاح الفلسطيني قد استنبتت مزيداً من بذور الشك والارتياب في الصف الفصائلي، المصاب من يومه بعاهة التشرذم البائسة، وأسّست، في الوقت ذاته، لانقسام داخلي جديد، يضاف إلى الانقسام القديم بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ذلك نجاح استراتيجي إسرائيلي مؤسف، تحقّق على رؤوس الأشهاد بفعل تكتيكات جعل العرب عربيْن، أي استخدام العصا الغليظة للفصيل المشاكس الصغير، والجزرة العجفاء للفصيل الراشد الكبير، الأمر الذي يهدّد بتعميق التباينات في الرؤى والمصالح والأهداف والخيارات.
بكلام أوضح، كان الموقف المفاجئ لحركة حماس، خلال العدوان الإسرائيلي أخيرا، وهو موقفٌ غير متطابق مع شعار "القصف بالقصف والدم بالدم" من أسباب انتهاء هذه المواجهة، بخسارةٍ فلسطينية أشمل من حدود القطاع، وأبعد من خذلان فصيل منافس، حيث انكسرت فيه صورة الكفاح الفلسطيني المشهود له بالتضامن التلقائي، وبوحدة البندقية في الملمّات. كما أدّى التخلي عن الشقيق الأصغر في مواجهةٍ قاسيةٍ مع عدو مشترك، من دون النظر إلى التداعيات بعيدة المدى، بما في ذلك الإضرار بصورة "حماس" المجاهدة، إلى تقديم هدية مجانية لإسرائيل التي زعم أحد كبار معلقيها "إن الشريك الأكبر لنا في المعركة كانت حماس".
لقد أعادت وقائع المواجهة في قطاع غزة إلى الذهن، وما خالطها من سوء تقدير، وأخطاء جسيمة، واقعة ثغرة الدفرسوار غربي قناة السويس في حرب العام 1973، حيث كادت تلك الثغرة أن تطيح كل النتائج الإيجابية لآخر الحروب الكبرى مع إسرائيل. وفي بعض الآراء، إنه لولا تلك الثغرة التي وقعت بين قطاعي الجيشين الثاني والثالث، وكانا يقاتلان شرق القناة، لتغيّرت طبيعة إسرائيل، وربما تغير وجه الشرق الأوسط، غير أن التزام كل جيش بقاطعه الميداني، وترك معالجة الأمر للجيش الآخر، أسفر عن تغلغل فرقة مدرعة بقيادة إرئيل شارون، ومن ثمّة تطويق الجيش الثالث، وبعد ذلك كان كل ما كان من تنازلات.
لقد حدث ذلك الخرق قبل 46 سنة، وها هو شبح الثغرة اللعينة يطلّ في غزة، بدليل أن أكثر ما يحتفل به نتنياهو، هذه الأيام، ليس نجاحه في اغتيال قائد سرايا القدس، ونحو عشرين من القادة الميدانيين، وإنما نجاحه في تحييد "حماس" التي كان من شأن انخراطها في المعركة أن يبدل المشهد الأخير، لا أن تنتهي هذه الجولة بلا أي مكسب يعتدّ به، ولا هكذا بصفر خسائر بشرية على الجانب الإسرائيلي، مقابل نحو 34 شهيداً ونحو مائة جريح على الجانب الفلسطيني.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي