لماذا يثورون؟

لماذا يثورون؟

18 نوفمبر 2019
+ الخط -
ثمّة فجوة كبيرة في التواصل والفهم بين الشعوب والحكام العرب، فما يجري من احتجاجات شعبية، يقابله سوء تعامل من الحكومات، وهذا دليل دامغ على أن التفاهم بين الجانبين غائب بامتياز، وأن لغة واحدة للتواصل بينهما، لا وجود لها، فالسلوك الرسمي تجاه أي محاولة اعتراض أو تصحيح لطريقة إدارة الدول وقيادة الشعوب يشي بأن العقل الحاكم يتساءل مشدوهاً ومستنكراً "لماذا يثورون؟!".
لا شك في وجود استثناءات، فبعض الحكام يدرك تماماً أنه غاصب للسلطة، ويخادع الشعب بوعودٍ لا نهاية لها، فإذا فقدت وعودُه سحرها وصارت ممجوجة مكرورة، انتقل إلى التهديد بكارثية غيابه وحتمية بقائه. حيث وجوده في السلطة، هو تحديداً، السبيل الوحيد الحفاظ على حياة الشعب، وهو وحده "لا شريك له" الحامي للرعية من براثن الفوضى والدمار.
لم يكذب الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، حين قال "الآن فهمتكم"، فهو لم يكن مضطراً للكذب أو الادعاء بعد أن اتخذ قراره بالرحيل. كان في وسعه المغادرة في صمت، ومن دون اعتراف بأي أخطاء، خصوصا خطأ جوهريا من وزن "عدم فهم" المجتمع الذي يحكمه. لا يعني ذلك بالطبع أن كل من فهم رحل، فكثيرون من مغتصبي السلطة والملتصقين بالكرسي يدركون تمام الإدراك، و"فاهمين كويس"، أنهم مرفوضون، بل مكروهون شعبياً. ولكن المسألة أعمق من مجرد اغتصاب سلطة أو تشبث بالحكم رغما عن أنوف الملايين.
السر في النظرة العنصرية من الحكام للشعوب، فهم (الحكام) يعتبرون أنفسهم أعلى وأعلم وأرقى وبالتالي (أبقى) من شعوبهم. أما أولئك المحكومون فليسوا سوى رعاع ينعمون بامتيازات الرعايا. وليس لأولئك الرعاع أي حقوق بعد المأكل والمشرب، بما في ذلك الحق في التفكير أو التدبير. بل إن حكاما يعزون كل المشكلات والأزمات التي تمر بها بلادهم إلى رغبة الناس في تحسين أوضاعهم أو اختيار من يقودهم. حتى أن أحدهم لا يكتفي بالحكم، وإنما يحاسب الشعب لأنه لا يقوم بواجباته، بل ويحاكمه بتهمة جحود النعمة ونكران الجميل.
موجة الاحتجاجات التي تجتاح المنطقة حالياً مختلفة عن موجة 2011. ذلك أن الأولى كانت تطمح إلى تغيير قواعد العلاقة بين الحكام والمحكومين لتكون تعاقدية واضحة، الكلمة فيها للشعب كما هو الحال في الغرب. ولاعتبارات كثيرة، تخلّت الشعوب عن ذلك المطلب الحالم، أو أُجبرت على ذلك، لترضى باستمرار صيغة الاسترقاق القائمة، وتقنع بمقايضة الحرية مقابل القوت، غير أن هذه المعادلة نفسها اختلت، وما قبلته مرغمةً، حدا أدنى، لم يعد متاحاً. ووجدت الشعوب نفسها بلا حرية ولا قوت، فخرجت ثانيةً لتصرخ ضد الجوع والحرمان قبل الدكتاتورية والاستبداد.
ومن دون اتفاق، اجتمعت شعوب المنطقة من المغرب إلى الجزائر فالسودان ولبنان والعراق، وحتى إيران، على أن ما تعانيه من فقر وحرمان، نتيجة مباشرة للفساد وفشل الإدارة وسوء توزيع الموارد، وكلها رماح تطعن مباشرة في نزاهة القائمين على الحكم وكفاءتهم، بمن فيهم القيادات والمسؤولون التنفيذيون.
من هنا، تجد الحكومات نفسها عاجزة أمام الموجة الاحتجاجية الثانية التي لا ترفع شعارات سياسية، فيمكن اتهامها بالعمالة والتخريب، ولا تطالب بإسقاط "النظام"، لتوصم بالفوضوية ومناوأة الدولة. وعلى الرغم من الإقرار بمشروعية الحق في الحياة، وتخفيف المعاناة الحياتية، إلا أن ترجمة ذلك إلى قراراتٍ وسياسات تعني بالضرورة محاكمة الفاسدين والفاشلين داخل دائرة السلطة والحكم ومحاسبتهم. وهو ما لا يمكن حدوثه لا شكلاً ولا مضموناً، فلن يحاكِم الحكام أنفسَهم. وإذا أسفرت الموجة الثانية عن الإقرار للشعوب بحقها في المأكل والمشرب، فسيعني ذلك اعترافاً بأن للشعوب حقوقاً تنتزع وإرادة تتجسّد. وستكون الموجة الثالثة للمطالبة بالحرية والحق في الاختيار، وهو في أعراف الحكم والتحكّم في بلداننا كُفْر صريح.       
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.