الانتخابات الرئاسية بعيون مسلمي سريلانكا

الانتخابات الرئاسية بعيون مسلمي سريلانكا

16 نوفمبر 2019

صندوق اقتراع برفقة شرطي في هامبانتوتا بسريلانكا (15/11/2019/فرانس برس)

+ الخط -
بعد أقل من عامٍ على وقوع هجمات عيد الفصح في سريلانكا، والتي راح ضحيتها ما يزيد على مئتي شخص، تشهد الجزيرةُ اليوم السبت، 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، الانتخابات الرئاسية، في ثالث استحقاق انتخابي منذ انتهاء النزاع المسلح في البلاد عام 2009. وتأتي هذه الانتخابات عقب أشهرٍ من التوترات الإثنية والدينية في سريلانكا تجاه الأقليات الدينية في البلاد، من مسلمين ومسيحيين، وجميعهُم يندرجون تحت مجموعة التاميل، على الرغم من اختلاف أديانهم؛ إذ تجمعهُم لغة التاميل، ويفرق بينهم اختلاف أديانهم بين مسلمين ومسيحيين ومجموعات أخرى. وتدين الغالبية من التاميل بالهندوسية، وتشكل الأقليات جميعاً في سريلانكا ما نسبتهُ 30% من المصوّتين. 
وقد ضاعفت هجمات عيد الفصح في إبريل/ نيسان الماضي، والتي استهدفت دور عبادة مسيحية وفنادق في العاصمة كولومبو وخارجها، من التوترات الإثنية بين السكان، وأدّى تبنّي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الهجوم، وإعلان "جماعة التوحيد" تنفيذها الهجمات إلى تحول العنف والعداء ضد الأقلية المسلمة، وشن هجومٍ على متاجرهم وبيوتهم ومساجدهم في مواقع عديدة، أشهرها أحداث كاتانكودي وأمبارا (شرق) وبوتالام (غرب - وسط) ومظاهرات كاندي ضد الوزراء المسلمين وغيرها، وفرضت الحكومة قانون الطوارئ على كل أنحاء البلاد، وحظر تجوالٍ منذ إبريل/ نيسان الماضي وحتى أواخر أغسطس/ آب.
وعلى الرغم من أن هذه الحملات العنيفة لم يرتكبها مسيحيون ضد مسلمين، غير أنها كانت تُبرّر بهجمات عيد الفصح. وارتكبت أغلب الهجمات من حرقٍ متاجر مسلمين واعتداءٍ عليهم، وبث خطابات كراهية ضدّ المسلمين عموما، من مجموعات متطرّفة من البوذيين، أبرزُهم جماعة "بودا بالا سيلا" (BBS) أحد الألوية البوذية المتطرّفة.
وليست هذه الموجة من العنف ضد المسلمين الأولى في البلاد، ففي عام 2006 قتل أربعة 
مسلمين وأصيب آخرون في انفجار بقنبلةٍ يدوية، استهدفت تجمّعاً للمسلمين في مدينة أكراباتو شرق العاصمة. وشهد عام 2014 استهدافاً غاضباً لمسلمي ولاية كالوتارا (جنوب - غرب) أسفر عن خسائر مادية، وحالة رعبٍ لمسلمي سريلانكا. وقبل 2014 شهدت الأقليات الدينية استهدافاً متكرراً بين حين وآخر. وثّقها باحثون بأنها منذ ما قبل مرحلة استقلال البلاد في عام 1948 عن الاحتلال البريطاني، وحدثت موجات عنفٍ متفرقة.
في المقابل، لم يسجل تاريخ سريلانكا حالات عداءٍ بين مسلمي البلاد ومسيحييهم، بل تمثل الأقلياتُ، سيما من هذينِ المجتمعين، مثالاً للتعايش، إلى جانب عدم وجود سوابقِ عُنف أو انخراط سياسي أو عسكري لمجتمع المسلمين في سريلانكا خلال سنوات النزاع المسلح للجزيرة، غير أن مسلمي الجزيرة اليوم يُواجهون عداءً كبيراً محلياً، تغذّيه مشاعر القومية الشعبوية المتصاعدة ضدهم، ما يجعلُ توفير الأمن مطلبهم الأول من أي رئيسٍ قادم قبل أي مطالب أخرى.
وإلى جانب الأمن الذي ينشدُه مسلمُو سريلانكا، وأقلياتها من الرئيس المقبل، لا يمكن تجاهل استحقاقاتٍ عديدةٍ أخرى متعثرة، أو مؤجلةٌ، منذ انتهاء النزاع المسلح، ينبغي العملُ عليها، تفادياً لاندلاع أعمال عنفٍ أخرى؛ كتحقيق العدالة الانتقالية وتحسين الاقتصاد ومحاربة الفساد وتحقيق المصالحة والتماسك الاجتماعي، والمصالحةُ مثلاً تحدٍ غير سهلٍ، فهو معتمدٌ على تحدياتٍ كثيرةٍ أخرى يُقاسُ بها، كما يصعب قياس نتائجه الملموسة، فسنوات السلام الهش التي عاشتها البلاد منذ 2009 أوحت بتعايش بين السكان، لم تتضح هشاشة المصالحة فيه سوى بتفجيرات يوم الفصح، وما تلاها من عنف في البلاد.
حزبا الاتحاد الوطني والحرية
يخوض الانتخابات الرئاسية في سريلانكا اليوم 35 مرشحا، المتنافسان الأبرزان: وزير الدفاع السابق، غوتابايا راجابكسا، الذي قاد حملة الحكومة عام 2009، وانتهت بهزيمة مقاتلي جبهة متمرّدي نمور التاميل في آخر معاقلها شمالي البلاد، وأدت إلى نصر الحكومة وإنهاء النزاع. وينتمي راجاباكسا للأغلبية الإثنية في سريلانكا، وهي السنهالا، وهو يمثل أحد الحزبين الأكبر في البلاد، حزب الحرية. ووزير الإسكان والإعمار في الحكومة، ساجيث بريماداسا، وهو نجلُ الرئيس السابق للبلاد الذي اغتاله متمرّدو التاميل خلال سنوات الحرب. وهو ينحدرُ أيضاً من إثنية السينهالا البوذيين، وهو مرشح الائتلاف الحاكم منذ عام 2015، ويمثل حزب الاتحاد الوطني. ويحتاجُ أي مرشحٍ للفوز من الدورة الأولى للرئاسية إلى ما لا يقلُ عن 50% من الأصوات زائد واحد، ولكن طريقة الحصول على هذه النسبة تختلف بين المرشحين.
يُعرف راجابكسا بخطاب قومي واضحٍ، يخاطبُ فيه مشاعر الغالبية السنهالية من البلاد أكثر من تركيزه على الأقليات، على الرغم من أن الأقليات يشكلُون معاً 30% من الناخبين، ولا يمكن الفوزُ بدونهم. أما بريماداسا فيُركز أكثر على تحالفٍ مع الأقليات الإثنية والدينية من السكان، واتخذ الوحدة والمصالحة شعاراً لهُ في أول تغريدةٍ لهُ بعد إعلان ترشحه الرئاسي، كما تعهد بقوانين تعاقب التطرّف الديني في بلدٍ الأديان فيه راسخة مع الهوية بوضوح. ومنذ إعلان الائتلاف الحاكم ترشح بريماداسا، أعلن غالبيةُ قادة الأقليات، بمن فيهم قيادات من المسلمين دعمهم له؛ ومنهم بالاني ديغامباران عضو تحالف التاميل التقدمي، ورؤوف حكيم من مجلس مسلمي سريلانكا، وريشاد بديع الدين من حزب مجلس سيلان.
ويتركزُ وجود المسلمين في أقاليم عدة، بينها العاصمة كولومبو، وتعد مكاناً للمسلمين الأكثر ثراء. فيما يشكل المسلمون أغلبية في بعض ولايات الشرق، مثل أمبارا وكاتانكودي (شرق)، حيث 
يمتهن أكثرهم التجارة في دكاكين صغيرة، ويوجد المسلمون في أغلب مناطق البلاد بشكل موزّع.
يعوّل سياسيون مسلمون عديدون على مرشح الائتلاف الحاكم، ساجيث بريماداسا؛ فالمرشح هو المنافس والبديل الأكثر حظاً عن فوز راجاباكسا، العسكري السابق، الفخور بانتصاراته العسكرية ومقارباته الأمنية وخطابه القوميّ، غيرِ المهتم بالتحالف مع الأقليات. ويعرف التاميل والمسلمون راجاباكسا من خلال فترة تسلمه وزارة الدفاع، إبّان رئاسة شقيقه ماهيندا راجاباكسا للبلاد (2010 - 2015).
وتمثل الانتخابات الرئاسية المرتقبة أهمية خاصةً، لكونها الأولى منذ التعديل على صلاحيات الرئيس، في دولةٍ تتبنّى نظاماً رئاسياً يمنحُ صلاحياتٍ واسعة لرئيس الدولة، حيثً قلّص التعديل التاسع عشر الذي جرى عام 2015 بعض صلاحيات الرئيس، كإمكانية إقالة رئيس الحكومة.
وليس وحده تعديلُ الدستور ما غيّر المشهد السياسي في البلاد، بل أسفرت انتخاباتُ عام 2015 عن فوز تحالف الأقلية التاميلية والمسلمة وراء الائتلاف الذي يقوده حزب الاتحاد الوطني، ومكّنهم ذلك من الحصول على فرصة تشكيل أكبر تكتل في البرلمان، وتشكيل حكومة وحدة وطنية. وتبنّى الرئيس الحالي، مايتريبالا سريسينا، عقب عام 2015، إصلاحاتٍ غير مسبوقة منذ انتهاء النزاع في البلاد، رفعت تطلعات السكان، سيما من المكونات الثقافية. وهذا ما يجعل أغلب ساسة الأقليات اليوم مصطفين إلى جانب بريماداسا ضد راجاباكسا.
إصلاحات ما بعد 2015
على الرغم من أن أغلب إصلاحات الرئيس مايتريبالا سيريسينا، ووعوده التي كان قد أعلن عنها، خصوصا التي تطلعت لها الأقلياتُ في البلاد، لم تُحقق تقدماً كبيراً، إلا أن حكومة الوحدة الوطنية التي شاركت فيها الأقليات منحت، على الأقل، مساحةً من الحرية لم تكن ممنوحة خلال فترة حُكم ماهيندا راجابكسا، فمظاهرات عائلات التاميل لكشف مصير ذويهم المفقودين منذ الحرب، ومظاهرات مولايتيفو التي استمرت عاما للمطالبة باسترداد الأراضي التي حازها الجيش من السكان بعد تهجيرهم، لم تكن ليُسمح لها بالخروج وانتقاد الحكومة والجيش تحت حُكم راجابكسا (2005 - 2014)، وقد حققت تلك المظاهرات جزءاً من مطالبها، كما منحت فترة حكومة الوحدة الوطنية براحاً للصحافيين والمحامين والناشطين، لتنظيم أنفسهم وممارسات حرياتٍ تكفلها الديمقراطية.
كان من بين ما تبنّته السلطاتُ بشكلٍ غير مسبوق عقب عام 2015 طرح مشاريع المصالحة بين السكان، بعد أن كانت المصالحة مفهوما غير مطروح، بل مرفوضاً نتيجة انتهاء النزاع المسلح في الجزيرة بطرف منتصر وآخر مهزوم، فأصبح المنتصرون غير مضطرين للمصالحة وطرحها، بل تُفهم المصالحة في سياقاتٍ كهذه من المنتصرٍ كأنها تساهلٌ مع الخصم.
شكلت الحكومة لأول مرةٍ مكتب الوحدة والمصالحة الذي أطلق برامج واسعةً لتقريب المكونات الثقافية والدينية من بعضها، غير أنّ الهجمات ضد المسلمين عام 2014، وهجمات عيد الفصح هذا العام (2019) تبيّن وجود خللٍ في برامج المصالحة والإعمار التي تعلن عنها الحكومة، وتُشير إلى الحاجة إلى مقارباتٍ أكثر عمقاً.
وقد أشار تقرير برلماني صدر الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) عن هجمات إبريل إلى وجود مشكلات في كيفيةتوجيه سياسات التعليم وسياسات المؤسسات الدينية، بما يخدم المصالحة، وتقوية العلاقات بين مكونات المجتمع السريلانكي، وضرورة معالجة التوترات الإثنية بشكل عاجل، تجنباً لتكرار أي أعمال عنفٍ بين الأديان في الجزيرة.
وقد شهدت مشكلة تحرير الأراضي التي سيطرت عليها قوات الجيش، مع انتهاء النزاع أيضاً، 
بعض التحسن عقب العام 2015، تقول الحكومة إنها حرّرت ما يقاربُ 80% من الأراضي التي كانت في حيازة الجيش، وأعادتها إلى أصحابها في الولايات الشرقية والشمالية للبلاد، غير أن منظمات حكومية تنتقدُ نقص الشفافية الحكومية لإثبات هذه الأرقام، كما أن آلاف النازحين ما زالوا بدون مأوى، بمن فيهم نحو 40 ألفاً من المسلمين الذين هجّروا على يد جبهة نمور التاميل منذ نحو ثلاثين عاماً وما زالوا نازحين (هُجروا من ولايات الشمال، وانتقلوا إلى مناطق غرب البلاد)، وقد تضاعفت اليوم أعدادهم، وما زالوا في انتظار حلٍ حكومي لأراضيهم.
وتُبين حالات مثل حالة تهجير مسلمي جفنا إلى بوتالام وغيرها أن مجتمع المسلمين، على الرغم من محاولتهم عدم الاصطفاف خلال الحرب مع أيٍّ من الطرفين، ينُظر له من الجهتين عدوا أو متواطئا، فالسينهالا يعدّونه جزءاً من تمرّد التاميل، والتاميل ينظرون إليه بنظرة من خذلهم في سنوات النزاع، ولم يصطف معهم، ويحول هذا دون جني مكاسب أو علاقات وثيقة من الطرفين، ولا سيما للمسلمين في المناطق البعيدة عن العاصمة.
ولايزالُ نفوذ الجيش في سريلانكا واسعاً، منذ التغلب على متمرّدي جبهة التاميل في عام 2009، وهو أحد التحديات أمام عمل السلطات التنفيذية في البلاد، لا سيما في قضايا كإعادة الأراضي وعودة النازحين والتوطين ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة. ويتضحُ نفوذ الجيش الواسعُ على الأقل في ارتفاع النفقات الحكومة على الدفاع وفي نفوذ العسكريين العالي في مجالات عدة، وعدم وجود أوراق ضغطٍ عالية من السلطات التشريعية أو التنفيذية، للضغط عليه في قضايا كتحرير الأراضي أو إعادة النازحين.
أمام سريلانكا إذاً تحدياتٌ عديدة تراها كل مجموعة من السكان بأعينها، ولا تقتصر حاجة المسلمين والأقليات الأخرى على الأمن، بل إن تفادي اندلاع أي نزاعٍ آخر في البلاد يتطلبُ إيجاد فرصٍ متساوية في التعليم والتنمية والرفاه الاجتماعي لكل المكونات، بناءً على المواطنة وليس على العرق أو الدين، والعمل على تغيير طبيعة العلاقات بين المجتمعات الدينية والثقافية، وإنفاذ القانون على الجميع، وضد مرتكبي الانتهاكات في حق الأقليات، أياً كانت هويتهم أو ديانتهم.
0341B1DC-57F8-4D30-8633-EB509E40D59C
0341B1DC-57F8-4D30-8633-EB509E40D59C
نجوى بن وهيبه

صحفية ليبية وباحثة في إدارة النزاعات

نجوى بن وهيبه