أن تموت وحيدًا

أن تموت وحيدًا

13 نوفمبر 2019

(محمد العامري)

+ الخط -
مرّة جديدة، يطفو على سطح شاشة الأخبار الزرقاء خبرُ وفاةٍ مفاجئ، لشخصية شهيرة. والموت هذه المرّة كان مفاجئا، والميِّت كان وحيدًا، بمعنى أنه لفظ أنفاسه الأخيرة وحيدًا، وقع أرضًا من دون أن يحاول إسناده أحدٌ ما، ولم يقدِّم له أحدُهم جرعة ماءٍ أخيرة، ولم يحاول أحدُهم أن يُنعش قلبه، ولو بطريقةٍ غير فنِّية، وربما ارتطم رأسُه بالأرض بقوّةٍ ضاعفت من ألمه آخر مرّة. كلُّ هذا قد حدث، وهو يحصل على آخر نفَسٍ، في هذه الحياة؛ لكي نكتب بكلِّ ألمٍ بعد أن يبلغنا الخبر متأخراً: إنه قد مات وحيدًا.. 
فكّرت كثيرا؛ لماذا نتزوّج وننجب؟ هل تحسُّبًا لهذه اللحظة؟ فقد قرأتُ رسالةً باكية لسيدة تقول إنها تتمنَّى أن تتزوَّج، وهي تقترب من عامها الأربعين؛ لكي لا تموت وحيدة، ولأنها تخشى على نفسها من أرذل العمر؛ فلا تجد من يناولها جرعة ماء، لهذا السبب هي تريد الزواج بأيِّ شخصٍ لتصبح أمًّا، فلا تزال لديها فرصة أخيرة ضعيفة في أن تحقِّق حُلم الأمومة، وهو سبيلها الوحيد؛ لكي تجد حولها شخصًا ما، وهي تُحتضر. ويبدو أنها قد سلَّمت بأن الزوج لن يبقى في هذه اللحظات، فربما يرحل عن الحياة كلِّها قبلها، وربما يرحل من حياتها، فرهانها الوحيد على ابنٍ يسبل عينيها، لآخر مرّة.
موحشٌ ومؤلمٌ شعور الموت، من دون أن يكون حولك أحد، والقصص والحوادث التي سمعناها عن هذا الموت كثيرة، وكثيرًا ما سمعنا المشاهير يبكون في لقاءاتٍ واعترافاتٍ خاصة وحيَّة على الهواء؛ لخوفهم من هذا اليوم، ومن هذه اللحظة، على الرغم من نجوميَّتهم ومُحِبِّيهم، فهم، في النهاية، يعودون إلى بيوتهم وحدهم، ويتجرَّعون مرارة الوحدة، حين يغلقون أبواب بيوتهم الفارهة عليهم. مِن هؤلاء النجم فؤاد المهندس، والذي انتزع الضحكات من قلوبنا، فهو بكى في أحد لقاءاته التلفزيونية؛ لأنه لا يجد أحدًا ينتظره على الغداء، هذا الذي انتظره الملايين، لكي يُطِلَّ عليهم بحركاته، ونكاته وقفشاته.
أنت لا تتعب وتشقى، وتُفني عمرك، وتستهلك طاقتك، وتهدر ساعات راحتك، وأنت تربِّي أولادك، وتهتم بهم، أو تعتني بآخرين، شاءت الظروف أن يكونوا في عنقك؛ لكي تجد نفسك وحيدًا على فراشٍ بارد؛ لأن هؤلاء قد شقُّوا طريقهم، وأصبحت لهم حياتهم المستقلَّة، وبعد أن كانوا هُمْ كلَّ حياتك، وكنت أنت شريانهم وأكسجينهم، ها هم ينسلخون عنك، وينبتون في أرضٍ أخرى، ولا يجدون الوقت؛ لكي يجلسوا على طرف فراشك هذا، ولو من باب المواساة، أو الشعور بالامتنان. أيُّ مقامرةٍ نفعلها حين نقوم بهذا كله بحقِّ أنفسنا، وماذا علينا أن نفعل لكي لا نموت وحيدين، ونجد حولنا أحبَّتنا، أو أفراد أسرتنا، مهما كانت علاقاتنا بهم قد تراوحت، فيما مضى من العمر بين مدٍّ وجزر؟!
يعتقد كثيرون أن الأسرة رهانٌ خاسر؛ لأنك، في النهاية، ستبقى وحيدًا، خصوصا عند رحيل شريك الحياة. ولن يجتمع حولك الأبناء، إلا بعد هاتفٍ من الجيران، يخبرونهم فيه أنك قد وقعت أرضًا، أمام باب بيتك، أو تعثَّرتَ على درج البناية، وأنت تصعده بصعوبة؛ بسبب أمراض القلب والمفاصل، أو أنهم يأتون إليك في زياراتٍ روتينية باردة، من باب الواجب، والخوف من أن يُسجَّلوا عاقِّين أمام الناس، وأمام الله، وأمام أنفسهم.
إذن، ماذا علينا أن نفعل لكي لا نموت وحيدين، لكي لا يكسر أفرادُ الشرطة، أو الجيران، باب البيت، ويجدونا جثثًا باردة، جاحظة الأعين في السقف المشقَّق؟ ماذا علينا أن نتخذ من احتياطاتٍ لكي لا تتناقل الأخبار، في المحيط، خبر هذه المِيتة المؤلمة؟
لا شيء تستطيع أن تراهن عليه، ولو ملكتَ كلَّ مال العالم، ولو ملكت جيشًا من الأبناء، أو جيشا من الإخوة والأخوات، فالممثِّل هيثم أحمد زكي مات وحيدًا، على أرضية الحمَّام، على رغم شهرته وماله، والفيلا الفخمة التي ورثها عن والده، ورجال الأمن السَّاهرين على خدمته، إلا أنه مات وحيدًا، ربما لسببٍ وحيد؛ أنه كان يحسب ألف حساب لتلك اللحظة؛ فجاءت..
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.