امتصاصُ النُّخبة

12 نوفمبر 2019

(معمر مكي)

+ الخط -
كلّ حراكٍ ينتج طاقاتٍ شابةً تهتم بالسّياسة، من باب الانشغال بالشّأن العام، وما يحدث حواليها، على عكس الاتجاه الذي يقول بإهمال هذه الفئة الحياة السياسية؛ وإذا فعلت فلأنّها أُقصيت منها، وحُصر دورها في الخلفية الانتخابية رصيدا انتخابيا يتمُّ استغلاله بين انتخابات وأخرى. وحين تتّقد الإرادة، تنتعش الرّغبة في التغيير لدى الشباب، ويتمرّدون على الهامش الذي دفعوا إليه. 
مُعظم قادة المظاهرات يكونون من الشّباب المتحمّس، والممتلئ بالطاقة، وبالعادة هو بذرة لشخصياتٍ سياسيةٍ مستقبلية، بعد إكمال دراساتهم الجامعية، وحصولهم على عملٍ يسمح بالتّفكير في العمل السياسي الاحترافي، والنّظر إلى أبعد، حيث التّغيير ممكنٌ من داخل النّسق السياسي القائم، من خلال تولّي زمام القرار.
ومهما كان الدور صغيرًا، فالتّغيير يحدث من خلال صراع أعضاء جدد في النّسق على الواجهة التي تحتّم تغيير بعض العادات السّيئة لأصحاب القرار القدامى، والاهتمام بالمصلحة العامة للمجتمع الذي يتولّون المسؤولية السياسية عنه. ولكن ما يحدث أنّ هذه الطاقات تذوب، وتختفي في الواقع، في منطقة ما بين الإيمان الجارف بالمبادئ واللّحظة التي يمكنهم فيها، بوصفهم أعضاء في النّظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أن يُحدثوا التّغيير؛ ليس من خلال شعاراتٍ احتجاجية، بل من خلال تدابير ملموسة تُحدِث، ولو جزئيًا، التّغيير المرجو.
ولكن من خلال تتبّع مصير قادة الحراكات العربية في الربيع العربي، يلاحَظ امتصاص هذه 
الفئة من الجماعات الموجودة سابقًا، واختفاؤهم، أو إخفاؤهم عن الظهور السياسي. ما يعيد طرح إشكالية صنع النُّخبة التي تتدهور يومًا عن يوم، لأنّها لم تخضع لصيرورة تطوّر طبيعي. ما فتح المجال لنخبة هجينة تسقط على السياسة من سماءٍ ما. غالبا صرنا نشاهد رجال الأعمال يمدّدون طموحهم في النّفوذ إلى مجال السياسة، وهم عنها غرباء، كما يدخل ساسة ينطبق عليهم المثال المغربي "المشتاق إلا فاق"، وهم ساسة حملتهم الشّعارات الدينية عبر صناديق الاقتراع في غياب البديل، مثل وزراء حزب العدالة والتنمية في المغرب، الذين وجدوا أنفسهم مطالبين بتشكيل حكومات، وتسيير وزارات من دون أن يمتلكوا الأسلوب، الذي هو الشخص، والسّياسة أجدر بأن يحمل ممارسُها أسلوبه، وإلا تاه بين الدّهاليز العميقة، مثلما حدث لهذا الحزب. وفي ظل ذلك كله، هناك فرضية أولى: المال صانع النُّخب الجديدة، وثانية: الفراغ يصنع النّخب. هكذا انتقلنا في المغرب، من النُّخب التي صنعتها المقاومة إلى النُّخب التي صنعها النضال من أجل الديموقراطية في الجامعات المغربية، والتي تنحدر من رحم اليسار؛ إلى نخب فرضتها التغييرات الجديدة في المغرب، ثم إلى نخب فرضها المال.
بالعودة إلى الربيع العربي، وهو الذي يعيش مرحلته الثانية، بسؤال أساسي: لم لا تنشأ نخبٌ 
من الحركات الاحتجاجية التي نجحت منها اثنتان أو ثلاثة على الأقل؟ وحتى التي انتهى بها المآل في السجن، فلطالما كان السّجن مصدرًا للتكوين السياسي للشباب الطري، حيث بلقائه سنوات مع مناضلين ذوي خبرة، وعبر القراءة (المخرج الوحيد لمعظمهم من زنازين العزلة) يتم إعداد السّياسي الشاب لينخرط إيجابيًا بعد الخروج من السّجن في المجتمع، بطاقةٍ أقل ربما، لكنّها طاقةٌ موجّهة، تعرف طُرق العمل، وإمكانات التغيير.
الآن ونحن نرى كيف يقضي الناشط المغربي ناصر الزفزافي محكوميته، والمضايقات التي يتعرّض لها، والتعذيب الذي صرح أنّه يتعرّض له، نجد أنفسنا نتساءل: هل يمكن له أن يكون سياسيًا، يقدم بدائل عما هو موجود بعد خروجه من السّجن؟ العادة تقول: لا. ليس فقط لأنه على الرغم من حماسه، والكاريزما، والذّهن الحالم الذي يحقق مقولة "الحالمون يصنعون التغيير"، إلا أنّه لا يمتلك منطقًا سياسيًا، ولم يتمرّس في العمل السياسي، قبل قيادة حراكٍ بهذا الحجم في الريف المغربي، وهذا كان خطأه الذي أُمسك منه، حين قيادته للمظاهرات. كان يمكن أن يكون حاويًا، يخبّئ الأرنب في قبّعته، ويصيّره حمامة. يلعب مع السّلطة بأسلحتها، ويتشبث بما قيل عنه إنه ضده، الوطنية الفولكلورية التي تروّجها السّلطة وخدّامها، وكما أنّ العنف في خطابه لا يليق بقائدٍ سياسي، مثل استعماله صفات: "عدو الله"، "العلوج". لذا حتى إن خرج من سجنه قريبًا، وإذا أتيحت له الفرصة في العمل السّياسي، لن يذهب بعيدًا فيه. بينما، من جهة أخرى، تبين أن والده يمتلك الذكاء والوسطية في التحرّك، بما لا يتيح للآخر 
إمساك أيّ شيء عليه.
ليس ضعف الثقافة سببًا في اختفاء النّخبة الشابة التي قد تشكل نواة نخبة سياسية جديدة، بل ضعف التأهيل، وانطفاء حضورهم بسرعة ظهورهم نفسها مع زخم الاحتجاجات. إما يتمّ استقطابهم، أو يحبطون، أو يعودون إلى همومهم اليومية التي تسيطر على الإنسان المعاصر، وتغرقه في قوقعة البحث عن منطقة راحة الأنا، خصوصا إذا حدث انفراجٌ ما في حياتهم.
هناك قيادات محلية تنتجها الاحتجاجات المحلية، لكنها هي أيضًا يلاحَظ أنّها معظم الأحيان لا تملك مهنًا مستقرّة، إما ما زالوا طلبة، أو يشتغلون في أعمالٍ مؤقتة، لا تناسب قدراتهم وشهادتهم أحيانًا. لذا هم يحملون قدرًا من النّقمة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم في ظل نسقٍ سياسيٍّ مغلق، وغير موفّق في حل الأزمات وتحسين الأوضاع، فتكون الحراكات فرصةً سانحةً لبروزهم. ولكن بعد انطفاء الحراك لسببٍ من الأسباب، سرعان ما يعودون إلى الهامش، ويفقدون زخم المبادرة، واتّقاد الإرادة، ووهج الحركة؛ بحيث لن يكونوا جزءًا من المستقبل الذي ننتظره جميعًا، ولا يُسمح لهم بأن يكونوا أيضًا.
الخلاصة: لا مكان للثابت في السّياسة، ولكن استنبات رموز جديدة ليس أمرا هيّنا، فالأمر يتطلب مؤهّلاتٍ كبرى وظروفًا تاريخية مناسبة، تُحدث قطيعةً مع المرجعيات والقيم السائدة. ويبقى السّؤال: أين النّخبة؟ بدل سؤال الثروة، فالموارد البشرية مفتاح التغيير الحقيقي.
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج