حكومات وراء الاحتجاجات

حكومات وراء الاحتجاجات

21 أكتوبر 2019
+ الخط -
عادت ظاهرة الاحتجاجات الشعبية إلى المنطقة العربية منذ أشهر. وكلما أوشكت على الانتهاء، أو الخفوت في دولة، سرعان ما تندلع في دولة أخرى، كما لو كان بعضها يسلّم بعضا. ولكن التوالي والارتباط فيما بينها ليس زمنياً وحسب، فثمّة قواسم مشتركة وعوامل تجمع بينها. 
أول ما يجمع تلك السلسلة المتصلة من الاحتجاجات أن حاجز الخوف الذي راكمته أعوام انحسار الربيع العربي عجز عن منع خروج الغضب الشعبي إلى العلن قولاً وفعلاً، فقد ارتبطت الخشية من الاحتجاج، وتجنب الجهر بالمعارضة، بإجراءاتٍ أمنيةٍ عقابيةٍ من شأنها التنكيل بالمعارضين السياسيين، ورفع نسبة المخاطرة على المواطنين العاديين، إلا أن سوء الأوضاع الحياتية وتزايد معاناة المواطنين اقتصادياً أفسدا معادلة تحمل القيود السياسية والأمنية، في مقابل حد أدنى من المتطلبات الاقتصادية ومقومات الحياة. ما أدى بدوره إلى انتهاك الهالة القدسية للسلطة ومؤسساتها، خصوصاً بعد انكشاف عورات بعض الحكومات والمسؤولين، فبعد أن أغلق سعد الحريري قناة المستقبل التليفزيونية لعدم كفاية الموارد المالية، فوجئ اللبنانيون بأنه منح 16 مليون دولار لعارضة أزياء جنوب أفريقية لأسبابٍ غير مفهومة.
وبتتبع حالات التظاهر والاحتجاج التي اندلعت على التوالي في السودان والجزائر ومصر والعراق والأردن ولبنان، يبرز الفساد المالي والإداري ظاهرة مستفحلة وأصيلة مميزة لنمط الحياة في هذه الدول، إلا أن الاتهامات التي طاولت مستوياتٍ عليا في المؤسسات الرسمية، كانت كفيلةً بتحويل تقبل الفساد والتعايش معه إلى حالة حنق ورفض، لأن فساد المسؤولين والشرائح العليا مادياً وأدبياً لا يبدو فقط غير مبرر، ولا مقبولا من هذه الفئات، لكنه أيضاً يؤكد سوء توزيع الموارد وغياب العدالة الاجتماعية.
ومما زاد من وطأة الأوضاع على الشعوب المحتجّة، خصوصاً في العراق ومصر ولبنان، تحميل الفقراء وحدهم التبعات السلبية لبرامج الإصلاح والتقشف، سواء بارتفاع أسعار السلع والخدمات أو بانخفاض مخصصات الدعم أو إلغائه نهائياً. إذ لا يوجد أي تمييز كمّي أو نوعي بين شرائح المجتمع وطبقاته المختلفة. وتقدّم السلع والخدمات للغني والفقير سواء بسواء من دون تمييز، لا في التسعير، ولا في منح الدعم أو منعه، فوجد المواطن الفقير نفسَه المتضرّر الوحيد من إجراءات تصحيحية مفترضة لأخطاء لم يرتكبها، ومعالجاتٍ غير مضمونة لإخفاقاتٍ ليس مسؤولاً عنها، وإنما الحكومات وحلفاؤها المحصنون دائماً ضد أي تقشف أو أعباء. ومع تكرار تلك العملية، من الطبيعي أن تقف قدرة الشعوب على التحمّل عند لحظة ما، فتندلع عمليات الاحتجاج والتظاهر مع محاولة الحكومات تنفيذ مزيد من الإجراءات التقشفية.
يجمع بين هذه الحالات، أيضاً، سوء الأداء الإعلامي، فقد استمرّت فورة الحرية الإعلامية والشفافية التي سادت بعض الإعلام العربي عامين أو ثلاثة بعد 2011، ثم عادت وسائل الإعلام العربية إلى نمط الصوت الواحد، والتأييد المطلق، والحديث لسانا للسلطة وليس للشعب.
وفي ظل الانتشار الساحق لشبكات التواصل والإعلام الإلكتروني، العابر للحدود والقيود، تحوّل الإعلام الرسمي، بابتعاده عن الواقع، أداة استفزاز وتأجيج للاحتقان، بدلاً من التهدئة والتسكين. في الماضي، كان التراجع عن الإجراءات المستفزة كافياً لانحسار الغضب الشعبي، وعودة الأمور إلى طبيعتها، لكن الحاصل، حالياً، أن موجات الاحتجاج لا تتوقف عند هذه الترضيات الحكومية، فقد تراجعت الحكومة اللبنانية عن قرار زيادة الضرائب، لكن اللبنانيين مستمرّون في التظاهر والمطالبة بإصلاح السياسات، وليس التراجع عن قراراتٍ محدّدة. وفي الجزائر، أحيل بعض رموز النظام إلى المحاكمة بتهم الفساد والتربّح. لكن الجزائريين يرون هذه الخطوة غير كافية، ويطالبون بتطهير الساحة كاملة من الفساد، أشخاصاً وسياسات.
انخدعت الحكومات العربية بالانحسار السريع للربيع العربي، وظنّت أن الأمور دانت لها إلى الأبد، فتمادت في تركيع الشعوب، حتى اضطرتها إلى الانتفاض مجدّداً. وألّبت على نفسها، من حيث لا تدري، ربيعاً عربياً جديداً ومختلفاً.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.