يوم أُكل العراق

يوم أُكل العراق

02 أكتوبر 2019
+ الخط -
لا يبدو أثر غياب العراق عن موازين القوى في منطقة الخليج واضحا كما هو اليوم، إذ تكشف حالة الاشتباك الحاصل بين السعودية وإيران، ومناشدة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، القوى العالمية التدخل لوضع حد لطموحات الهيمنة الإيرانية، تكشف حجم الفراغ الذي خلفه انهيار العراق في منظومة الأمن الإقليمي الخليجي. وعلى الرغم من أهمية العامل الدولي (بريطانيا ثم الولايات المتحدة) في حفظ الأمن في أغنى مناطق العالم بالنفط، إلا أن منطقة الخليج، بشكلها السياسي الراهن، كانت تتمتع بآليات توزان ذاتي، لا تقل أهميةً في منع نزعات الهيمنة الإقليمية. لا بل كانت أهميتها تزداد كلما ضعف دور العامل الخارجي. 
ارتكز النظام الإقليمي الخليجي، منذ نشأته بعد الحرب العالمية الأولى، على توازن القوى بين مثلث إيران - العراق - السعودية. وخلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتلاشي النفوذ البريطاني في المنطقة، لعب التوازن ضمن هذا المثلث دورا مهما في منع أيٍّ من أضلاعه الانفراد بالهيمنة الإقليمية، فقد وقفت السعودية، مثلا، إلى جانب مصر، ضد مشروع حلف بغداد الذي كان يضم العراق وإيران، وتدعمه بريطانيا، مخافة هيمنته على المنطقة. وفي أعقاب إطاحة الحكم الملكي في العراق عام 1958، تعاونت السعودية مع إيران في مواجهة سياسات حكومة "الثورة" في بغداد، ووقفتا ضد محاولات عبد الكريم قاسم ضمّ الكويت، بعد حصولها على استقلالها عن بريطانيا عام 1961، مخافة أن تزداد قوة العراق على حسابهما. وفي عام 1970، ومع انهاء بريطانيا استعداداتها للانسحاب من السواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية، وقفت السعودية إلى جانب العراق، على الرغم من خلافاتهما، في رفض محاولات إيران ضم البحرين، بعد أن نجحت في احتلال جزر الإمارات الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى) مستغلة انسحاب بريطانيا. وبعد تسوية وضع البحرين، وقبول طهران نتائج الاستفتاء الذي أجرته الأمم المتحدة وإعلان استقلالها، عاد التقارب الإيراني - السعودي لمواجهة محاولات العراق زعزعة استقرار نظم الخليج الحليفة للغرب، من خلال دعمه أحزابا وحركاتٍ مسلحة مثل "جبهة تحرير الخليج العربي" وتمرّد ظفار. وفي عام 1979، عند إطاحة نظام الشاه، وانطلاق مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الجوار، عادت السعودية الى جانب دول الخليج العربية الأخرى للتحالف مع العراق، لمواجهة محاولات الهيمنة الإيرانية، خلال حرب السنوات الثماني.
لعبت توازنات القوى الإقليمية، في جميع هذه الحالات، دورا مهما في الحد من نزعات الهيمنة الإقليمية، خصوصا بعد انسحاب بريطانيا كليا من منطقة الخليج عام 1971، وعجز الولايات المتحدة عن الحلول عسكريا محلها بسبب تورّطها في حرب فيتنام، ومعارضة الرأي العام الأميركي أي انتشار عسكري جديد في الخارج.
المرة الوحيدة التي فشلت فيها موازين القوى الإقليمية في ضبط نزوع الهيمنة كانت عندما غزا العراق الكويت عام 1990. والسبب هو الإنهاك الذي اعترى إيران بعد ثماني سنوات من الحرب، إلى درجةٍ بدت فيها غير مؤثرة في حسابات العراق الاستراتيجية. فوق ذلك، كانت فرص نشوء تحالف بين السعودية وإيران لمواجهة العراق شبه معدومة، بسبب العداء الشديد الذي طبع علاقة الرياض بحكومة الثورة في طهران. أما مصر التي كانت على الدوام الحاضر الغائب في موازين القوى في الخليج، فقد كانت في عهد حسني مبارك أضعف من أن تُحدث فرقا. وألجأ هذا الأمر السعودية إلى طلب الدعم من الخارج (الولايات المتحدة) للتعويض عن عجز آليات الضبط الإقليمي. لكنها (السعودية) عارضت زحفا أميركيا على بغداد بعد تحرير الكويت، ما سمح بالإبقاء على توزان قوى بين عراقٍ ضعيف محاصر وإيران أكثر ضعفا كرّسته سياسة الاحتواء المزدوج التي تبنتها إدارة كلينتون.
ولكن نظام التوازن الإقليمي انهار تماما عندما عادت واشنطن بعد هجمات "11 سبتمبر" في 2001، وقررت غزو العراق. الأسوأ بالنسبة للسعودية التي وقفت تتفرج على إيران تفتك بجسد العراق أن انهيار نظام التوازنات الإقليمية رافقه تغير في طبيعة المصالح الأميركية في المنطقة، إذ لم تعد تحظى بدرجة الاهتمام نفسه. واليوم فقط تدرك السعودية أنها أكلت يوم أكل العراق الذي طالما ركنت إليه في احتواء إيران، ولكن ربما فات وقت الندم.