الاختراق السوداني

الاختراق السوداني

26 يناير 2019
+ الخط -
لم يبق عدو لحرية المواطنين في أي نظام عربي إلا وأوهم نفسه أن الربيع العربي انقلب إلى شتاء يقتل من انخرطوا فيه، وإذا كان قد نجح في شيء، ففي تعزيز مواقع الطغاة، الجدد والقدماء، وتعريض مجتمعات العرب للتمزيق والقتل والتجويع والتعذيب، فلا عجب أن يكون "الربيعيون" قد ندموا على حماقة الثورة التي خالوا أنها ستنخرط في ما أطلق عليه بعد ثورة أكتوبر الروسية لقب "ربيع الشعوب"، فإذا بربيعهم ينقلب إلى مقتلةٍ عامةٍ عصفت بأوهام من نزلوا منهم إلى الشوارع، مطالبين بالحرية، فأرسلته نظم بلاده عامة، والأسدية منها خاصة، إلى العالم الآخر!
هذا هو الخطاب الرسمي في البلدان العربية. ولكن... إذا كان معيار النجاح نزع شرعية النظم العربية، هل يكون الربيع العربي قد أخفق أو أنه نجح في تعرية حكامها، وأظهرهم على حقيقتهم، مجرمين يحتلون مواقع مكّنتهم من تحويل بلدانهم سجونا كبيرة، بمشانق وأقبية تعذيب جاهزة دوما للاستخدام؟ أليس القضاء على أكذوبة الشرعية التي تتلطّى النظم وراءها لتبطش بشعوبها، انتصارا للربيع العربي، سيكون منذ الآن موضوع أي سياسةٍ، ومنطلق أي ثورةٍ في وطن العرب، ومصدر قلقٍ من يجلسون في السلطة، في حال واصلوا رفض إصلاح أحوال نظمهم الفاسدة وشعوبهم التي تعلمت الدرس السوري، حيث تمرّد شعبٌ أعزل على أحد أسوأ نظم الاستبداد والقتل في التاريخ البشري، ولم يوقف ثورته، على الرغم من أنه قدّم مليون شهيد من أجل حريته، وصمد قرابة ثمانية أعوام في وجه آلة قتلٍ لا ترحم، وهشّم نظاما قمعيا اعتمد منذ أربعين عاما معادلةً تقول: لا وجود للشعب ما دمنا في الحكم، ولا وجود لنا في الحكم إن وصل الشعب إليه.
من ينظر إلى سورية اليوم سيرعبه حجم التنكيل بالموالين الذين يتعرّضون لاعتقالات واغتيالات يومية، وللإذلال بلقمة العيش التي غدت أداة تعذيب "وطنية" لا ينجو منها أحد، لإيمان الأسدية أن من ظلوا في مناطقه يتحيّنون كغيرهم فرص التخلص منه، وعليه أن يصفّي حسابه معهم. في المقابل، إذا كان معيار نجاح "الربيع" قد دفع الشعوب العربية إلى التمرّد على أوضاعها، فها هي تتمرّد في معظم بلدانها، وآخرها شعب السودان الذي رد على زيارة حاكمه إلى الأسد، وعلى فساد نظامه، واستبداد هذا النظام، بتمرّد نزل معه إلى شوارع المدن، مطالبا بالديمقراطية، وبرحيل الانقلابي الذي لطالما اضطهده بذرائع لا تقل تفاهةً عن ممانعة (ومقاومة) قرينه الدمشقي لعدو نظامه الوحيد، شعب سورية الحر، الذي خال بعض الحكام أن مصيره سيردع بقية العرب، فإذا بأمثولته تشجعهم على الاقتداء به، وهو الذي كاد يسقط الأسد مرتين، ولولا مرتزقة حزب الله وبوتين لانهار بفضل ما قدمه المواطن السوري من تضحيات، وأبداه من صمود!
واليوم، وقد وصل الربيع العربي إلى السودان، سيكون من الصعب على النظم الخائفة الاستمرار في إعلان وفاته، بما أن تمرّد الشعب هناك مجتمعي الهوية، سلمي الحراك، تقف على رأسه قيادة سياسية رفضت دوما حكم العسكر والإرهاب والعنف. وتضم اليوم منظمات مجتمع مدني، تطالب، منذ عقود، بالحرية والديمقراطية، وتتواصل مع العالم عبر مطالب تضفي الشرعية على حراكٍ شعبيٍّ لا يني يتسع، على الرغم من استهدافه برصاص أجهزة أمنية تدافع عن دولتها العميقة، في محاولة لتكرار مجازر الأسدية في سورية، ولإرغام الشعب المسالم على اقتراف غلطةٍ قاتلةٍ هي التخلي عن النهج السلمي وحمل السلاح.
سيقلب اختراق السودان حسابات من توّهموا أن وحشية الأسدية قضت على الربيع العربي. وسيؤكد مرة أخرى أن شعب السودان لن يتخلى عن حريته وحقوقه، لأنهما معنى وجوده.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.