عصا جميل راتب

عصا جميل راتب

26 سبتمبر 2018
+ الخط -
لأنه قد خبر الوسط الفني جيداً، ولأنه لم يترك وريثاً يعمل في الوسط الفني؛ لكي يتلقى المجاملات، قبل العزاء، فقد أوصى بأن لا يُقام له بيت عزاء، وأن يتمَّ دفنُه فقط، وينصرف كلُّ واحد من المُشيِّعين إلى شأنه، فالفنان الراحل أخيرا، جميل راتب، لم يُنجِب أولاداً، وعاش حياته وحيداً وسعيداً، متَّبِعاً فلسفة خاصة، وهو يمسك عصا الحياة والموت من المنتصف.
لا أحد يجهل جميل راتب، فهو فنان بحقّ، من الجيل الملتزم، ويمكن أن يطلق عليه بأنه من الرعيل الأخير من الفنانين المحترمين، قبل أن يصبح الفن مهنة مَن لا مهنة له. كان موته بالنسبة لي كشفاً لخطأ كبير يخصُّ حياته، بقيِتُ على اعتقاد فيه، وهو أنه من أصول فرنسية؛ بسبب شكله وطريقة كلامه، وهذا ما نفاه المؤرِّخون عنه، ومن كشفوا عن تصريحاته، بهذا الشأن فعمَّتُه هي هدى شعراوي، وأمُّه مصرية أصيلة، ولكنه عاش فترة من حياته في فرنسا، حيث درس الفن، وعمل فيه.
أحببتُ جميل راتب، في شخصية مفيد أبو الغار، في مسلسل "الراية البيضاء". وعلى الرغم من النجاح الجماهيري لهذه الشخصية، فهو لم يحبّ دوره فيها، والسبب أنه يراها شخصية سهلة؛ لأنها قريبة من شخصيته الحقيقية، وهذا يكشف كم هو رائع هذا الفنان الذي كان يغرق في الشخصية، ويذوب فيها، مثلما كان في فيلمي "البداية" و"الصعود إلى الهاوية" الذي احتلَّ الترتيب الخامس والسبعين ضمن أفضل مائة فيلم في ذاكرة السينما المصرية، في استفتاء النقَّاد في العام 1996، وقد لعب فيه دور رجل مخابرات إسرائيلي، استطاع الإيقاع بفتاةٍ مصريةٍ في حبال الجاسوسية.
أحببتُ دور جميل راتب في مسلسل "يوميَّات ونيس"، وهو يتزوج من سيدة نزقة، لكنه يحتمل كلَّ عيوبها، حتى حين يستطيل أنفها بطريقة مضحكة، فهو يتقبَّل كلَّ ذلك بكل حب، وبذلك يكون قد نجح في الأدوار الكوميدية، كما نجح في أدوار الشرّ التي طبع بعضها بطابع كوميدي، كما ظهر في مسلسل "رحلة المليون"، فقام بدوره الخالد، لطفي رجل الأعمال الشَّرِه للمال، فأصبحت كلمتُه التي تشي بحذاقته في السوق، تتردّد على ألسنة العامة، وهي كلمة "بيع".
قد تشعر بالضيق لأن ذكره لم يجرِ كثيراً في وسائل الإعلام، على الرغم من أنه قد تجاوز التسعين من عمره بعامين، لكنك تكتشف سنّة الحياة، وهي أننا نتذكّر الأحياء، ونتحدّث عن مثالبهم، بعد رحيلهم، وتتبارى الأقلام والألسنة في ذلك، وكأننا نعبِّر عن تقصيرنا نحوهم. لذلك تتجلى فلسفة جميل راتب هنا في عدم رغبته في إقامة بيت عزاء له، وبأنه لم يكن يخشى الموت الذي سيريحه من أمراض الشيخوخة؛ فانتظره بشغف، والموت في مخيّلته، كما في مخيّلتي، هو لقاء الأحبَّة، ممَّن رحلوا قبلنا، ولكنك لا تدري بأيّ وسيلةٍ سوف تلتقي بهم، والشوق غالبُك، والحنين قاتلُك، ولكن من المؤكَّد أن القدر يرتِّب لك لقاء خاصًّا، بعدما عانيتَ في هذه الحياة من الوحدة والخذلان.
ولكي لا ننسى جميل راتب؛ بمواقفه الجميلة في الحياة، مثلما أثَّرت فيه عاملةُ نظافة في المطار، أصرَّتْ على أن تدعوه؛ ليشرب زجاجة مياه غازيَّة معها، فلم يخذلها. وهذا يدلُّ على بساطته وتواضعه اللذيْن يفتقدهما أبطالُ السينما، هذه الأيام. وربما كانت مقابلة رئيس الدولة أسهل من مقابلة أحدهم شخصياً، ويكون الواحد فيهم محاطاً بالحراسة المُشدَّدة، على سبيل التفاخر، لا أكثر فهو في الحقيقة، لو سار في الشارع، لما تعرَّف عليه أحد. ولكن جميل راتب عرفه سائقُ تاكسي، وأخبره بأنه يشعر بأنه ابنُه، وكان هذا الموقف مِن أجمل مواقف حياة جميل راتب التي امتدَّتْ نحو قرن، وجاب فيها العالم، واشتُهر في فرنسا، بلاد الفن، أكثر من شهرته في بلاده، وهذا ما يميِّزه عن غيره من الفنانين، حيث قدَّم هناك فنًّا بحقِّ، بعيدا عن العصبية المتكلَّفة، والإشاحة باليدين للتعبير عن الحنَق والغضب.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.