القبضاي والرؤوس اليابسة

القبضاي والرؤوس اليابسة

10 يونيو 2018
+ الخط -
شاهَدَ الصديق هادي الدمشقي فقرتي التلفزيونية التي أحكي فيها عن الرجال المنافيخ الذين يسمّون أنفسهم "قبضايات"، ضمن فقرة "حديث أبو المراديس" على "تلفزيون سوريا".. فحضرتْ إلى ذاكرته حكايةٌ وقعت في مطلع ستينيات القرن الماضي، كان هو شاهداً عليها، فرواها على صفحة "فيسبوك" الخاصة بمجلة "كش ملك".
تقول الحكاية إن رجلاً "قبضاي" يشبه القبضايات الذين يمشون بطريقة (خصلة وعنقود والباقي فراطة)، كان يُنَصِّبُ نفسَه حامياً لبلدته، بينما هو، في الواقع، أزعر، سافل، يستغل قوته الجسدية ونذالته ليأخذ خُوّة (إتاوة) من المحلات التجارية التي يعيش أصحابُها على أرباحٍ قليلة من خلال تعبهم وعرق جبينهم. وكان يمر، كل يوم، بالمحلات التجارية والدكاكين الصغيرة، ويسمّي دورته (الجَبْوَة)، فكأنه الجابي الذي يُحَصِّل لمؤسسة الكهرباء ما يستحق على المواطنين، لقاء استهلاكهم الشهري من الكهرباء.
شاهدَ هادي الدمشقي هذا القبضاي، مرة، واقفاً أمام محل لبيع الخضار والفواكه، يتجادل مع البائع، والبائع يعتذر له بأنه غير قادر على دفع الخوّة في الوقت الحاضر، لأنه لم يستفتح بعد، ويطلب منه أن يمرّ به في آخر النهار، بعد أن تصبح الغلة وفيرةً، ليأخذ حصته المعلومة.. يقول هذا، ولا شك أنه يدعو الله، في سرّه، أن يُصيبه بمرضٍ عضال لا شفاء منه، ليصرف ما يأخذه من الناس الغلبانين على الأطباء، والصيادلة، ومخابر التحليل، والأشعة، ثم لا ينفعه الدواء، فيموت وترتاح بلدنا من شره.. والقبضاي كان يلحّ في الطلب، ويقرّر أنه لن يغادر المكان، حتى يضع المبلغ المتفق عليه "المعلوم" في جيبه.
وكان هناك رجلٌ ليس من أبناء البلدة، لعله ضيفٌ عند أحد الأهالي، يشتري بعض الخضار، سمع الجدل الدائر بين الرجلين، فأشفق على البائع، وقال للقبضاي:
- يا أخي العزيز، الرجل يقول لك إنه ما استفتح. انصرف الآن، وبعد ساعتين أو ثلاثة ارجع، ووقتها يعطيك ما طلبت، وفوقه حبة مسك. الحياة يسر وعسر.
قال القبضاي للرجل الغريب: أنت شو دخلك؟
رد الغريب بتهذيب: معك حق، أنا ما دخلني، وإنتوا، في كل الأحوال، أبناء بلد واحدة، وحارة واحدة. أخي، اعتبرْ أني ما قلت لك أي شي، وسامحني.
استغل القبضاي لباقة الرجل، وخطر في باله أنه رجلٌ جبان، وأنه إذا افتعل معه معركة لا بد أن يحصل منه على بضع ليرات. لذلك أنزلَ حاجبيه، وضيّقَ عينيه، وزَمَّ منخاره، وقال له:
- ما بدّي أسامحك. ومرة ثانية إذا بتتدخل في شغلةٍ لا تعنيك أنا بدّي أكسر راسك!
قال له الغريب: ما في مانع إنك تكسر راسي، ولكن، حتى ما أغشّك، بدي أخبرك إنه رأسي قاسي شوي.
شعر القبضاي بالاستفزاز، وقال له: ما في راس قاسي، يا خيو، الكل بيتكسر.
قال الغريب: كلامك صحيح 100%. ولكن بجد راسي كتير قاسي. هل تحب أن تجرّب؟ تفضل.
اندفع القبضاي نحو رأس الرجل، ليمسك ياقته، ولكن، وبسرعة البرق أمسك الرجل يده، وفتلها، ونتره من فوق كتفه، وألقاه على الأرض.
تجمهر العابرون أمام المحلّ، والدهشة تعلو وجوههم، وكأنهم لم يصدّقوا أن هذا الكائن التافه الذي يمشي متقصداً أن يُصدر حذاؤه صوتاً منتظم الإيقاع (طش.. طش) اصطدم برجل أقوى منه، تجرأ عليه، وأسقطه على الأرض مثل كيس الخردق.
جاء من أقصى السوق رجل راكض يحمل عصا، رفعها فوق رأس القبضاي، وقال للغريب: اسمح لي أشفي غليلي به.
قال الغريب: ما في داعي تضربه، أنا بنصحك تاخد منه السكين التي يشكلها بزناره.. وأنا واثق أنه لن يعود للظهور في هذه البلدة بعد الآن.
تقدّم رجل آخر، وقال: الأخ معه حق، ليس من الحكمة أن تضربه وهو ملقى على الأرض مثل السماد البلدي. يكفي أن تبصق عليه. هكذا.
فراح الحاضرون يبصقون عليه.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...