كأس العالم.. كُرة وسياسة

كأس العالم.. كُرة وسياسة

18 يونيو 2018
+ الخط -
لم تبتعد السياسة عن الرياضة يوماً، وفي بطولة كأس العالم الجارية حالياً في روسيا، السياسة حاضرة بقوة، منذ كانت استضافة موسكو البطولة مجرد فكرة. بل إن الفكرة ذاتها نشأت أساساً بدوافع سياسية بامتياز، حسبما كشفت صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام، نقلاً عن عميل استخباراتي بريطاني اكتشف أن رغبة روسيا في تنظيم البطولة العالمية الكبرى لم تكن سوى تجسيد رغبة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تدعيم مساعيه نحو استعادة وضعية الدولة الكبرى لبلاده، عبر استضافة أكبر حدث كروي عالمي. لذا كان بوتين كريماً على غير عادته، فراح يوزع عقوداً نفطية وهدايا باهظة، طلباً للتصويت لصالح إقامة المونديال في بلاده التي لا تملك تاريخاً وليس لها ثقل في عالم كرة القدم. على الأقل بالمقارنة مع منافستها على استضافة البطولة هذه المرة، إنكلترا، البلد التي اخترعت كرة القدم، ولديها إمكانات وموارد وخبرة تنظيمية كبيرة. لكن ما حدث أن لندن خسرت وموسكو فازت باستضافة كأس العالم 2018.
واستمراراً لحضور السياسة في بطولة كأس العالم، هدد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) باستهداف البطولة، وهذا ربما ما دعا موسكو إلى العمل على التهدئة في كل الملفات الدولية الملتهبة، خصوصاً في الأزمة السورية. وخاطبت موسكو العواصم المعنية بهذا الخصوص، لتجميد الموقف في سورية وغيرها من مناطق الصراع وبؤر الأزمات، تجنباً لاستفزاز "داعش"، حتى يمكن تأمين اكتمال فعاليات كأس العالم من دون مشكلات أمنية قد تعكّر صفوها.
لم يكتف بوتين باسترضاء أعضاء الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ومغازلة "داعش"، بل بدا في المباراة الافتتاحية شديد التحفظ في التعبير عن فرحته بالأهداف المتتالية التي سجلها المنتخب الروسي في مرمى السعودية. حتى أنه أشار غير مرة إلى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، كما لو كان يعتذر منه، قائلا "ليس الأمر بيدي.. إنها كرة قدم". وكانت لغة الجسد عند بن سلمان أكثر وضوحاً، بل إن العفوية فيها أعمق دلالة وأبلغ تعبيراً، حيث بدا غاضباً من الأداء السيئ لفريق بلده، وجسّد تململه في مقعده مع كل هدف، خيبة أمل شديدة من النتيجة الثقيلة، كأن ما يجري على أرض الملعب، أكثر من مجرد مباراة رياضية في كرة القدم. واكتملت سوريالية المشهد، بالمأزق الذي زاد حُمرة وجه رئيس "فيفا"، جياني أنفانتينو، فمع كل هدف روسي، كان يلتفت يميناً ويساراً وهو في حيرة من أمره، هل يفرح ويهنئ أم يطأطئ ويواسي؟!
وبينما غلب الغناء على مراسم حفل الافتتاح في موسكو، استقبلت المدن المستضيفة للمباريات الوفود المشاركة بطقوس وطنية ومظاهر قومية والفلكلور الشعبي لكل منها.
أطلت السياسة برأسها أيضاً من بين ثنايا المباريات ونتائجها، فلم تَسلَم بعض المباريات من توظيف النتائج أو قراءتها سياسياً. مثلاً، وجد بعضهم في فوز إيران على المغرب بهدفٍ من خطأ لعب مغربي (نيران صديقة) نموذجاً لما يحدث سياسياً في الشرق الأوسط، حيث تجني طهران مكاسب كثيرة، ليس بفضل قوتها، وإنما لضعف الآخرين وأخطائهم.
وعلى ذكر المغرب، شهد التصويت على اختيار الدولة المضيفة لكأس العالم 2026 واقعةً مهمة، إذ حظيت المغرب بأصوات دول كثيرة عربية وإفريقية وآسيوية، لم تكن السعودية منها، على خلفية موقف الرباط من حصار قطر. وكما كانت السياسة سبباً في الخطوة السعودية الرياضية تجاه المغرب، فإن مردودها على العلاقات بين المملكتين سيكون سياسياً أكثر منه رياضياً.
وبينما تزايدت وتيرة التفاعلات المصرية السعودية وحرارتها، سواء في الغرف المغلقة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب مجريات الدور المستجد لرئيس هيئة الرياضة السعودية، تركي آل الشيخ، في الرياضة المصرية وتداعياته، فإن مباراة المنتخبين التي تجري الأسبوع المقبل ستترك بصمات سياسية وشعبية، أعمق وأوسع بكثير من دلالاتها الرياضية.
سبقت كأس العالم "روسيا 2018" حسابات ومعطيات سياسية مهمة، وستخلُفه تداعيات ودلالات سياسية كثيرة، وربما عميقة، ليصير في جوهره مُبارزة سياسية في ملاعب الكرة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.