كتيبة غيفارا والتذاكي المكشوف

كتيبة غيفارا والتذاكي المكشوف

16 يونيو 2018
+ الخط -
(عليكم أن تشكلوا كتيبةً، وتسمّوها كتيبة غيفارا، ثم تذهبوا لقتال النظام السوري، بدلا من انتقاد الكتائب الإسلامية).. هذه الجملة ألقتها في وجهي، قبل وقتٍ، سيدة سورية علمانية، تنتسب إلى أحد أعرق الأحزاب اليسارية السورية، في معرض دفاعها عن الكتائب الإسلامية، في أثناء نقاشٍ طويلٍ عن الثورة السورية ومآلاتها، وما وصلت إليه بسبب العسكرة والأسلمة، وما فعلته الكتائب الجهادية، بمختلف أسمائها، من إبعاد الثورة السورية عن أهدافها، وتحويلها إلى ثورةٍ مضادةٍ على الثورة الأساسية، ما شكل إسهاما رئيسا، مع أسبابٍ أخرى كثيرة، في إعادة تدوير النظام، وتبييض صفحته، وانفضاض الرأي العام العالمي عن الثورة، وتوقف دول كثيرة عن دعمها، بعد أن سيطرت تلك الكتائب على مناطق سورية كثيرة، واحتمت بين المدنيين، وفرضت سلطتها وشروطها عليهم، ما قدّم الذريعة المناسبة للنظام وحلفائه، لقصف المدنيين وقتلهم، بحجة محاربة الإرهاب، مثلما قدّم الذريعة المناسبة للمجتمع الدولي للصمت عن هذه الجرائم بالحجّة نفسها، من دون أن ننسى الصفقات المشبوهة التي عقدها قادة هذه الكتائب، لإعادة مناطق الثورة ومدنها إلى "حضن النظام"، ليفرض شروطه على المدنيين بمصالحاتٍ مذلّة، أو بالتهجير الممنهج خارج بيئاتهم وأمكنتهم التاريخية، بعد أن فتك بهم الحصار الخارجي الذي فرضه النظام السوري، متزامنا بالحصار الداخلي من هذه الكتائب.
كانت جملة "شكلوا كتيبة غيفارا وحاربوا النظام" تقال وتكتب دائما في وجه كل من يعترض على التسليح والعسكرة، أو على أسلمة الثورة وتطييفها، بذريعة دفاع الثوار عن أرضهم وعرضهم، وبذريعة أن النظام السوري هو من بدأ في تطييف الثورة، ولا بد للرد عليه من تطييفٍ مقابل. كانت ثمّة صفحات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، غرضها الرد على كل من ينتقد عسكرة الثورة، أو الكتائب الجهادية المسلحة، أو حتى مآلات الثورة. ولم يكتف القائمون عليها بالرد على المنتقدين، بل كانوا يعمدون إلى تشويه سمعة كل من يتوجّه بأي نقد، عميقٍ أو سطحي، للعسكرة والأسلمة، وتوصيفه بأشنع الأوصاف، واعتباره من طابورٍ خامس شكله النظام للقضاء على الثورة، ووضع المنتقدين في قائمة "العلمانيين"، وشتم العلمانية، وربطها بالانحلال والمجون والإلحاد وهتك حرمة الأديان. ما كان يتيح للمتابعين لهذه الصفحات شتم العلمانية، وشتم كل من يعترض على العسكرة والأسلمة، والمطالبة بإباحة دمه، بعد استثارة الغرائز العنفية لدى العامة السورية المتدينة، وهي بكل حال طريقةٌ لطالما استخدمها الدين السياسي في القضاء على معارضيه عبر العصور، في المسيحية والإسلام على حد سواء.
ليس مستغربا طبعا أن يتضح أن تلك الصفحات أنشأها أعضاء في أحزابٍ إسلامية، وهي ممولة، مثل الحملات الطائفية الممنهجة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات السابقة، بالتزامن نفسه مع حملات النظام السوري، الأمنية والعسكرية الطائفية، وبثه بجيشه الإلكتروني لنشر صفحات ومواقع محرّضة طائفيا ومناطقيا وقوميا، حتى بات ليس بعيدا عن الظن أن ثمّة اتفاقا خفيا بين النظام ومعارضيه الإسلاميين على تفتيت بنية المجتمع وتقسيمه، بحيث تصعب لملمته، وإعادة بناء عقده الاجتماعي، بعد سنواتٍ من الدم والقتل والكراهية والتفرقة والحقد والضغينة المتبادلة، بين مؤيدي النظام ومعارضيه السوريين من العاديين الذين وجدوا أنفسهم في دائرة موتٍ مغلقةٍ تحيط بهم، من دون أي أمل بالخلاص.
فإذا كان كل ما حدث قد صبّ في مصلحة النظام الذي استعاد كل المناطق الخارجة عن سيطرته، وبدأ بالتعامل بوصفه المنتصر على شعبه، من دون أن يكترث بالأثمان الباهظة التي دفعها السوريون، في سبيل هذا الانتصار الفضيحة، ولا بأنه قد سلم سورية لتصبح تحت الرعايتين، الإيرانية والروسية، لاحقا، ولا بأنه ليس أكثر من خادم لتنفيذ مطالب الدول الراعية، وبالتالي هو غير معنيٍّ بتقديم اعتذار للسوريين عما حدث، فإن معارضيه، من الإسلاميين وحلفائهم العلمانيين المصرّين على التعامي عن دورهم في الخراب السوري الكبير، يجب أن يقدّموا اعتذارا وراء الآخر، ويضعوا السوريين في صورة ما حدث، وما وصلت إليه الثورة، كي يكفّروا عن ذنبهم في المشاركة في صنع الخراب. أما التعامي الحاصل الآن، بل والأسئلة المتذاكية عن دور العلمانيين في الثورة، والتي تزيد السوريين تفرقةً وانقساما، فليست سوى تأكيد على البراغماتية اللا أخلاقية التي تمايز الإسلام السياسي عن العلمانية الوطنية.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.