تلك الأغنية على الممر

تلك الأغنية على الممر

15 يونيو 2018
+ الخط -
أما وأن شهر حزيران الحالي لمّا ينته بعد، فذلك يجيز التذرّع به للبقاء في موضوع الهزيمة العربية الباهظة، وغير المنسية، قبل واحدٍ وخمسين عاما. وكان صاحب هذه الكلمات قد كتب، الأسبوع الماضي، إن ما يمكن أن يُقال في شأن تلك الجائحة، في ذكراها الراهنة، ربما قيل. ولكن، هذا عن أسبابها، وما واكبها من تفاصيل، فثمّة أدبياتٌ غزيرةٌ، ونتاجاتٌ فكريةٌ وتحليليةٌ ذات قيمةٍ عالية، اجتهدت جيدا في درس ما ساق إليها. وكثيرٌ في الرواية والمسرح والسينما والشعر والقصة جاء جريئا وشجاعا، ومنه ما اشتمل على جدارةٍ إبداعيةٍ ثمينةٍ، عن تلك الهزيمة الباقية. وبشيءٍ من التحرّز، يمكن الاجتهاد في القول إن أغلب ما اعتنى به المحصول الفكري والإبداعي، عموما، فيما يتعلق بالذي جرى في الكارثة الحزيرانية ذهب إلى الأسباب، وحاول أن يجيب، مباشرةً في الفكر، أو إيحاءً في الأدب والفن، عن السؤال: لماذا جرى ما جرى؟

بعيدا عن التعميم، والمطلقات، ومع التسليم بوجود هوامش الخطأ الإنساني المعتاد، في الوسع أن يكتب ذواقٌ متعجّل، بلا غريزةٍ أكاديمية، ولا يهوى التقصّي والبحث المعرفي، إن الفيلم المصري، الحزيراني تماما، "أغنية على الممر" (إنتاج 1972)، كان من غير تلك المسطرة المتحدّث عنها هنا. لا علاقة له أبدا بأسباب الهزيمة، لا مباشرةً ولا إيحاءً. ذهب إلى الهزيمةِ نفسها، في مقطعها الميداني المحض. انشغل بالفقد والخسران، بالفاجعة العسكرية. كان فقيرا جدا، إذا ما قورن بالأفلام الأميركية والغربية عن الحروب، وحتى بعض العربية (الجزائرية مثلا). يُؤخذ عليه هذا. ولكن يُحسب له، وهو الأول لمخرجه علي عبد الخالق، أنه وازى بين ما حضر فيه من احتفاءٍ بالبطولة، والمناقبية الوطنية، في المجنّد المصري (الشخصيات ليسوا جنودا، وإنما مستدعون للمعركة)، وبالتالي في المواطن المصري، وما اعتنى بتصويره من أحاسيس ومشاعر فرديةٍ تماما لدى شخصياته الخمس، والتي تنوّعت بإيقاعٍ موفق.
موجز الفيلم، وهو عن مسرحيةٍ للكاتب علي سالم (المطبّع العتيد لاحقا)، أن خمسة مجندين مصريين وجدوا أنفسهم، في السابع من يونيو/ حزيران 1967، معزولين، مُحاصَرين، متروكين في موقعٍ أشبه بممرٍّ ترابيٍّ في سيناء، بعد انسحاب الجيش من المنطقة، وتقدّم القوات الإسرائيلية فيها. لا ذخيرة كافية، ولا تموين، ولا اتصال معهم بعد أن تعطّل جهاز الإشارة. لم يكن أمامهم إلا الاستسلام أو الدفاع، ما أمكن، عن الموقع الذي يوجدون فيه. يشتمل الفيلم على استعادات كل شخصيةٍ أشواقها، وما غادرته من حياةٍ قبل الالتحاق بالحرب. وهنا الشجى الجوهري في الفيلم الذي يأخذ اسمه من أن أغنيةً يواصل تلحينَها أحد المجندين الخمسة، وهي قصيدة للشاعر عبد الرحمن الأبنودي. .. هذا إيجازٌ مخلّ للفيلم، طبعا، فالسينما ليست حكايات وحواديت، وإنما صور وتعبيراتٌ عن أحاسيس أولا وأيضا. وهنا يمكن القول إن علي عبد الخالق الذي كان من شبّان "مجموعة السينما الجديدة" التي أُعلنت في مصر، في 1968، نجح، إبداعيا، في باكورته "أغنية على الممر" في إطلاق طاقات أداء الممثلين (محمود مرسي، صلاح قابيل، محمود ياسين، صلاح السعدني، أحمد مرعي)، في هذا العمل الذي صحّ اعتبارُه  من أهم أفلام السينما المصرية (وإنْ لم ينجح جماهيريا)، والذي لم يفتعل نهايةً سعيدةً له، وإنما اتّسق مع إيقاعه، مع الهزيمة القاتمة التي ظلّلت مشاهده القاسية، والتي أُسندت إلى وجوه الممثلين فيها، كما ركّزت عليها كادراتٌ كثيرة، أدوار البطولة.
أن تهزم الخوفَ الذي فيك، هذا هو الرهان الأساس الذي يُموقعك في لحظة التحدّي والمواجهة، مع استحالة النصر وصعوبة النجاة. وأن يقيم فيك حب بلدك، وهي مصر، في فيلم علي عبد الخالق وسيناريو مصطفى محرّم، يعني أن تكون مشحونا بالتعبئة اللازمة في لحظةٍ مثل هذه. ولكن الناس ليسوا متشابهين أبدا، فكان أحد المجندين الخمسة بلا أحلام، كان صاحب عقل بارد، كذابا وانتهازيا. ... "أبكي .. أنزف .. أموت.. وتعيشي يا مصر"، هكذا كتب الأبنودي، في الأغنية التي ظلت على ممرٍّ في سيناء إبّان الهزيمة، الباقية منذ حزيران قبل واحد وخمسين عاما. .. هل من يتذكّر؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.