فلسفة الدفاع عن النفس

فلسفة الدفاع عن النفس

12 يونيو 2018
+ الخط -
لا تني ثيمة العنف، طبيعته ودوافعه وتأثيراته على النفس البشرية، تشغل الفلاسفة والمفكّرين القدماء والمعاصرين على السواء، في محاولاتهم الردّ على شرعيته من جهة، وعلى حق الدفاع عن النفس من جهة أخرى. في كتابها "الدفاع عن النفس.. فلسفة العنف" (دار لاديكوفيرت الفرنسية، 2017)، تنقل الفيلسوفة إلسا دورلان النقاش إلى مستوىً مخالف، وجديدٍ كليا، إذ تسعى إلى "تأريخ ممارسات الدفاع عن النفس"، ماضيا وحاضرا، في إطار النزاعات الاجتماعية – السياسية التي عرفتها الحداثة. والحال أن هذا التأريخ يأتي مزدوجا، إذ أنه يدرس حركتين متناقضتين: تتعلق الأولى بالدفاع الشرعي عن النفس، وهو الدفاع العدواني عن الامتيازات التي يتمتع بها البيض والذكور على السواء. والثانية، دفاع التابعين والمرؤوسين والمهمّشين والضعفاء عن أنفسهم، ومظهرا كيف أن نشأة الحداثة ارتكزت إلى شروط من بينها "فبركة الجسد الأعزل".
في مطلع الكتاب، هناك التمهيد، حيث تقيم دورلان مقاربةً ما بين حادثتين يفصل بينهما نحو مائتي عام. تتعلّق الأولى بتعذيب عبدٍ مأسور في قفص حديدي في بوانت آ بيتر عام 1802، والثانية برجم سائق تاكسي أفريقي- أميركي في لوس أنجليس عام 1991، على يد أفراد من الشرطة البيض الذين تمت تبرئتهم، ما استدعى خروج مظاهرات احتجاجٍ أدت إلى مقتل 53 متظاهرا من السود، وجرح ألفين برصاص الشرطة والجيش. المقاربة بين مشهدين قاسيين جدا، تهدف إلى برهنة استمرارية ما تدعوه الكاتبة "تكنولوجيا السلطة"، أي أجهزة السيطرة التي تجعل من بعضهم "غير حصين"، أو "غير قابل للدفاع عنه"، وتحويل إمكانية الدفاع عن النفس إلى "امتياز حصري لأقلية مهيمنة". فبعد أن كان "الكلّ مسلّحا" في العصور الوسطى، تمّ وضع استراتيجية حوّلت، بشكل تدريجي، هذا الحق إلى امتيازٍ يتم منحه إلى أبناء الطبقة الأرستقراطية الممهورة بشدّة بثقافة القتال. أيضا، في الحقب الاستعمارية، هي الطبقة الحاكمة، أي المستعمرون، من كانوا يملكون حق حمل السلاح واستخدامه. عام 1685، فرض "القانون الأسود" الذي حظر على العبيد "حمل أي سلاح هجومي، أو عصي ضخمة". الملفت للانتباه أن القانون هذا نفسه هو الذي كان وراء تحوّل أجساد السود المستعبدين إلى سلاح قتال ومقاومة، وإلى ابتكار آليات دفاعٍ عن النفس من نوع الأناشيد، الرقص، الموسيقى، وبعض الفنون القتالية، ... إلخ، وذلك كله بسبب "استحالة مواجهة متكافئة وبأسلحة متساوية".
بالاستناد إلى قراءة الفيلسوفين، جون لوك وتوماس هوبز، موضوعة الدفاع عن النفس، وهما اللذان رأيا أن هناك "هؤلاء الذين يملكون أجسادهم فعليا، وأولئك الذين نُزعت منهم"، تشير دورلان إلى التمييز بين هؤلاء الذين يحق لهم شرعيا الدفاع عن أنفسهم، وهم بالتالي أحرار، وأولئك الذين لا يحق لهم شرعيا ذلك، أمثال العبيد، الخدم، النساء، والخارجين عن العدالة، ... إلخ. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الستينيات، وباسم الدفاع عن النساء البيضاوات، تم قتل مئات الرجل السود الذين أحرقوا أحياء، شنقوا أو أعدموا بتهم عشوائيةٍ، كالاغتصاب أو التحرش، في الولايات الجنوبية الأميركية. هذا، وفي الفصل الأخير تفرد الكاتبة فسحة محترمة لقضية المرأة ما يشي بانتمائها إلى الحركة النسوية، والتزامها بها، منتهية إلى أن "الدفاع عن النفس" ليس وسيلةً هادفة إلى غايةٍ هي اكتساب موقع واعتراف سياسيين، بل هو ما يسيّس الأجساد، من دون وساطةٍ، من دون إنابة، ومن دون تمثيل".
بتناولها الدفاع عن النفس تجربةً تعاش بشكل مستمر، تطرح الفيلسوفة عددا من الأسئلة: كيف يؤثر العنف اليومي على علاقتنا بالعالم؟ ما الذي يفعله بأجسادنا؟ وكيف يقوم بإبادتنا؟ مقترحة العمل على العنف نظاما أخلاقيا نطبّقه على ذواتنا، واعتباره "ضرورةً حياتيةً بما هو تطبيق عملي لفعل المقاومة".

دلالات

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"