ما هكذا تقرأ "وثائق ميتروخين"... وغيرها

ما هكذا تُقرأ "وثائق ميتروخين".. وغيرها

07 مايو 2018
+ الخط -
في عام 1992، تمكّن العقيد فاسيلي ميتروخين، أمين المحفوظات في جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي) من الهرب إلى لندن، ومعه آلاف النسخ المصورة من الوثائق السرية الاستخبارية، وهي اليوم محفوظةٌ في أرشيف تشرشل في جامعة كيمبردج. وقد عمد الزميل رامي القليوبي إلى التفتيش في تلك الوثائق، للخروج بصيد مثير منها، لكن يبدو أن سعيه خاب، مع أن ذلك المسعى مشروع تماماً في عالم الصحافة. والكشف عن الوثائق السريّة مهمة جليلة في نهاية المطاف، لأن واجب الصحافي هو الكشف لا الإخفاء، وهو بهذا العمل يخدم العلم والحقائق والتاريخ معاً. لكن تلك الغاية تحتاج عُدّة علمية، وأول عناصر تلك العُدة فهم ومعرفة السياق التاريخي لتلك الوثائق، والوقائع الصحيحة، ومعرفة تفصيلات السياسة وبواطن العلاقات الاستخبارية المشتقة منها.
يندرج تحليل الوثائق في إطار المعرفة، وفي نطاق علم التاريخ، وهو يحتاج، أكثر ما يحتاج إلى مؤرخ يستطيع فهم السياق التاريخي والسياسي الذي صيغت تلك الوثائق في إطاره. وعلى سبيل المثال، لو تركنا الحليب يغلي فوق النار، فإن الحليب سيفور خارج إنائه. وليس على الإنسان الفرد (أي الصحافي هنا) أن يعرف لماذا يفور الحليب؛ فهذه المهمة من شأن العالم (أي المؤرخ أو صانع السياسات) الذي عليه أن يفسر لماذا وكيف يحدث الغليان. ونتذكّر جميعاً هذيانات مايلز كوبلاند وتبجحاته في شأن ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، علاوة على أكاذيبه التي وضعها في كتابه "لعبة الأمم"، وزعم فيه أنه وقف وزميله كيرميت روزفلت خلف الثورة. وعاشت أكاذيبه ردحاً من الزمن، وربما ما برحت تعيش حتى اليوم، إلى أن بدأت الخارجية الأميركية في نشر وثائقها عن تلك الحقبة، فتبين أن جميع روايات كوبلاند كانت كذباً بكذب، وأن المخابرات المركزية الأميركية (C I A) فوجئت بحركة الضباط الأحرار، وكل ما فعله ضباطها، من طراز كوبلاند وروزفلت وأضرابهما أمثال إيغلبرغر وليكلاند وإيفانز، أنهم عرضوا على جمال عبد الناصر، بعد نجاح الحركة، المساعدة في تأسيس جهاز استخبارات حديث، ولم يتحقق هذا العرض.

الوثائق الناقصة والترجمة
يجب أن تكون الوثائق كاملة، كما تفعل "ويكيليكس" في هذه الأيام، ثم يُترك لكل خبير أو
خبيث أو مطلع أو صاحب قرار أو أي صحافي أو مؤرخ أن يحلل تلك الوثائق، ويستنتج منها ما يشاء من الاستنتاجات. أما نشر مقتطفات من الوثائق الخطيرة، أو ملتقطات منها بحسب اجتهاد صحافي أو كاتب غير متخصص، فمن شأن ذلك أن يفقد الموضوع برمته مصداقيته. ربما تثير تلك الطريقة تهليلاً ما في عالم الصحافة اليومية، لكنها لا تعيش إلا أياماً معدودات لغياب التحقق العلمي في هذا الموضوع. وفي الحلقات الخمس التي نشرتها "العربي الجديد" عن وثائق ميتروخين (21 /4 /2018 – 25 /4/ 2018)، ثمّة إشكالان: أولهما النقصان في الوثائق؛ فنحن لم نقرأ أي وثيقة كاملة، وتُركنا تحت رحمة ما التقطه صاحب التحقيق. وثانيهما الترجمة غير الدقيقة التي وصلت إلينا على ذمة مَن نقلها إلينا.
ورد في الحلقة الأولى أن وديع حداد خطف طائرة أميركية في دمشق، وهذا غلط، أما الصحيح فهو أنه خطف طائرة أميركية إلى دمشق، وثمّة فرق كبير. ويرد في الحلقة الثانية أن اجتماعاً سرياً عقد في دمشق في ديسمبر/ كانون الأول 1977، بمشاركة قادة الأجهزة الخاصة السورية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لمناقشة اغتيال الرئيس المصري في حينه، أنور السادات، ومستشاره السياسي أشرف مروان ورئيس جهاز المخابرات السعودية، كمال أدهم... إلخ. وهنا يبدو الخلل في هذا النص واضحاً تماماً، فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت حينذاك على خصومة شديدة مع الحكم في سورية، خصوصاً بعد تزعمها "جبهة الرفض" الفلسطينية وتلقيها الدعم من العراق خصم سورية في ذلك الوقت. ومن المحال أن تكون حاضرة في مثل ذلك الاجتماع إذا صح انعقاده.
هل كان الاجتماع إذن مع وديع حداد لا مع الجبهة الشعبية؟ هذا مستبعد تماماً لأن وديع حداد كان يُحتضر آنذاك، وتوفي بعد ثلاثة أشهر. وعلى الأرجح، فإن ذلك الاجتماع عقد في حضور الجبهة الشعبية – القيادة العامة، لا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فالترجمة هنا لا تفرّق بين المنظمتين، الأمر الذي يجعل صدقيتها في مهب الريح. وفي ميدان الترجمة أيضاً، يرد في الحلقة الثانية أن المخابرات السوفييتية (كي جي بي) قادت حملة لإطاحة أشرف مروان، بذريعة استيلاء مروان على مبالغ مالية كبيرة، خصصتها السعودية والكويت لمصر لشراء أسلحة. وهذا كلام غير سليم وغير دقيق، فقد كانت السعودية والكويت تدفعان أموالاً لا لشراء الأسلحة لمصر في سنة 1977، بل جزءا من ميزانية الهيئة العربية للتصنيع الحربي، أي لإنتاج الأسلحة لا لشرائها. ويترجم المترجم اسم أحمد خليل الجنداوي، المعروف جداً في الأوساط الفلسطينية، إلى أحمد خليل جيندوان ما يشير إلى عدم الدقة.

تهافت الوثائق
تقول ملخصات الوثائق في الحلقة الثانية إن جهود "كي جي بي" ساعدت في إقالة أشرف 
مروان من منصبه في عام 1976. والحقيقة أن السبب المباشر لإقالته هو الضابط في الحرس الجمهوري أحمد المسيري الذي كان يرغب في الزواج من لبنى ابنة أنور السادات. وقد عملت جيهان السادات مع أشرف مروان وفوزي عبد الحافظ (السكرتير الخاص للسادات) على إبعاد المسيري إلى خارج البلاد في مهمة دبلوماسية دائمة. وعندما أراد السادات أن يتحقق من سيل الشكاوى المصرية لا السوفييتية التي دأبت على اتهام أشرف مروان بالتربح الفاحش، عيّن المسيري محققاً خاصاً، فاكتشف أن أشرف مروان اشترى مليوني سهم من أسهم إحدى الشركات البريطانية بأربعة ملايين دولار، فاضطر السادات إلى إبعاد مروان من دائرته. وهنا تظهر تلك الوثائق كما عرضها التحقيق ساذجةً وسطحيةً وليست ذات قيمة تاريخية. ففي وثيقة أخرى، أن وديع حداد تسلم من الاستخبارات السوفييتية عشرة مسدسات وكواتم صوت وعشرة آلاف دولار في 1977. ربما يكون ذلك صحيحاً، لكن الخبر في حد ذاته تافه. عشرة مسدسات فقط؟ لقد كان لدى أي مسؤول فلسطيني صغير أكثر من ذلك بكثير، وكانت رشاشات الكلاشينكوف ميسورة جدا في بيروت في تلك الحقبة. أما مبلغ العشرة آلاف دولار، فيكفي للرد على ذلك بالقول إن وديع حداد أرغم، في إحدى المرات، دولة أوروبية على دفع خمسة ملايين دولار، ومرة دفعت له ألمانيا أكثر من هذا المبلغ، كي يختطف إحدى طائراتها لينهي كابوس الفدائيين المحتجزين لديها بعد عملية ميونخ. وأبعد من ذلك، فقد جاء في إحدى الوثائق أن صحيفتي "الدنيا الجديدة" و"الشعب" في بيروت كانتا تُستخدمان بفاعلية بين 1975 و1976 لتوضيح وجهة نظر السياسة الخارجية السوفييتية. وفي هذا النص ما يجعل العارف يستلقي على قفاه ضاحكاً، فهاتان الصحيفتان لم يصل توزيعهما في أفضل أحوالهما إلى مئتي عدد بيعاً، ومثله للتوزيع المجاني. بينما كانت تصل أرقام توزيع صحف الحزب الشيوعي كالنداء والأخبار، فضلاً عن الطريق وغيرها، إلى الآلاف.

عدم المعرفة وبيت القصيد
يقول التحقيق، بحسب الطريقة التي ترجمت بها الوثائق، في الحلقة الأولى إن قائمة المتعاونين مع "كي جي بي" كانت تضم عدداً من كبار المسؤولين السوريين، أمثال صلاح الدين الطرزي، وأن الاتصال بوزير الشؤون الاجتماعية، عبد الغني قنوت، هو "اتصال موثوق". ولعلم الزميل القليوبي فإن مفردة "موثوق" لا تدل ألبتة على أن عبد الغني قنوت عميل، إنها مفردة معروفة تشير إلى أن معلومات هذا الشخص على درجةٍ عاليةٍ من الموثوقية بحكم منصبه. ولعل هذه المفردة شكلت اضطراباً لدى تلخيص الوثائق الضعيفة مضموناً وترجمة، فمن جهةٍ يكتب في الحلقة الأولى إن الاستخبارات السوفييتية تمكنت من اختراق السفارة السورية في موسكو بمساعدة ثلاثين شخصا، بمن فيهم السفير السوري نفسه. لكن، بعد عدة سطور، يورد أن السوفييت دعوا السفير السوري إلى رحلة صيد لضمان غيابه عن السفارة للقيام بعملية خاصة في السفارة (المقصود زرع أجهزة تنصت). إذن لم يكن السفير عميلاً، مع أن الاتصال به مصنف على أنه "اتصال موثوق". وهذا ربما يفسر معنى عبارة "اتصال موثوق" والتي ظن أنها تعني التعاون الاستخباري.
بيت القصيد هنا هو أن إلقاء ظلالٍ من الريبة على أشخاصٍ مثل وديع حداد وماجد أبو شرار وصلاح خلف (أبو إياد) والكاتب السوري، حسين العودات، مسألة يعتورها كثيرٌ من عدم فهم الحقائق والوقائع، فترجمة الوثائق تزعم أن الاتصال مع "كي جي بي" يصيب بالسوء شخصياتٍ عربية مثل مَن ذكرنا. لكن، مَن قال إن الاتصال بالسوفييت آنذاك يصيب بالسوء سمعة هذه الشخصيات المحترمة، خصوصاً ماجد أبو شرار المناضل الفتحاوي اليساري؟ كان أبو شرار وكثيرون غيره يرون أن التحالف مع الاتحاد السوفييتي ضروري لمنظمة التحرير الفلسطينية، لأنها تحتاج إلى معادل دولي للإمبريالية الأميركية. وبهذه الرؤية، تعاون فلسطينيون كثيرون مع الاتحاد السوفييتي ومؤسساته الحزبية والنقابية والأمنية. ثم إن وضع عنوان فرعي (أي المتعاونون) هو من صنع القليوبي نفسه، وهذا الطراز من الأحكام غير جائز، خصوصاً حين يدور الكلام على شخصيات مثل ماجد أبو شرار أو صلاح خلف الذي كان تعاونه مع "كي جي بي" من صميم عمله، لأنه مسؤول عن "الأمن الموحد الفلسطيني"، وهو، جرّاء موقعه هذا، يتعاون مع أجهزة مماثلة كثيرة، فيتبادل وإياها المعلومات والتقارير الأمنية صوناً لأمن منظمة التحرير، ولعلاقات منظمة التحرير بغيرها من الدول، وهذا لا يضر سمعة أبو إياد على الإطلاق.
مهمة أي جهاز استخبارات في العالم، وأي محطة استخبارات خارجية، وأي سفارة، هو
 الاتصال بالسياسيين والدبلوماسيين والصحافيين ورجال الأمن، وحتى رجال الأعمال والاقتصاديين، لمحاولة فهم ما يجري في البلد الذي يخدمون فيه، وإرسال تقارير بذلك إلى مرجعهم السياسي أو الأمني، فالاتصال أمر بدهي، أما العمالة فهي الأمر المنحط، ولا يجوز الخلط بين الاثنين، كما لا يجوز خلط عباس بدباس حين يدور الكلام على التحالف السياسي؛ فالتحالف غير الارتباط الاستخباري. والعميل يؤمر فيأتمر وينفذ، أما الحليف فيجري التشاور معه، فيتفقان أحياناً ويختلفان حيناً. وهذا ما كان يجري مع القادة الفلسطينيين حلفاء الاتحاد السوفييتي من عيار ماجد أبو شرار أو أبو إياد.

حكاية ذات دلالة
تعرّفت في بيروت إلى شاب ياباني كان يعمل سابقاً في بعثة المساعدات اليابانية إلى الشعب الفلسطيني في رام الله، ثم نُقل إلى الملحقية الثقافية في بيروت، وهو يتكلم العربية بطلاقة جراء إقامته في فلسطين، حتى أنه تزوج لبنانية وأنجبا ولدين. وكثيراً ما امتدحه أصدقاؤنا في رام الله الذين يعرفونه جيداً. وكان يتردد عليّ في مؤسسة الدراسات الفلسطينية لحضور بعض الندوات العلمية، ولا سيما حين كان يحضرها باحثون من الضفة الغربية، فهو يعرف معظمهم معرفة مباشرة. وفي أحد الأيام، جاء مع شخص ياباني، والهدف توجيه سؤال واحد لي: هل تتوقع أن يتعرّض الفريق الياباني الذي سيشارك في بطولة آسيا لكرة القدم في لبنان سنة 2000 لأي اعتداء من الفلسطينيين؟ وفوجئت بالسؤال، فهو سؤال أمني. وكانت السلطات اللبنانية قد سلمت آنذاك مجموعة من الجيش الأحمر الياباني إلى السلطات اليابانية، الأمر الذي أثار غضباً كبيراً لدى اليسار اللبناني والفلسطيني. ومع ذلك، أجبت بأنني لا أعتقد أن الفلسطينيين يفكّرون اليوم بهذا الشكل، وأن العمليات الخاصة التي كانت سائدة لديهم في نهاية الستينيات ما عادت موجودة في تفكيرهم في عام 2000. فشكرني الشاب الياباني واكتفى بذلك.
هذا الشاب مكلف بالتأكيد من سلطات بلاده استقصاء إمكانات تأمين الحماية لفريق بلاده الذي كان سيأتي إلى لبنان بعد شهور. ومن المؤكد أنه التقى كثيرين غيري من اللبنانيين والفلسطينيين، فضلاً عن السلطات اللبنانية المعنية. ومن الراجح أنه كتب تقريراً عن اتصالاته لسلطات بلاده. الآن، لو جاء صحافي بعد ثلاثين سنة مثلاً، وفتش في الوثائق اليابانية، وعثر على أسماء من التقاهم ذلك الشخص الياباني في إحدى الوثائق، فسيقول إن هؤلاء كانوا متعاونين مع الاستخبارات اليابانية.
مَن لا يعرف قراءة الوثائق الاستخبارية يضلل الرأي العام، ويشوّه حقائق الأمور. وقلب الأمور وشقلبتها في بعض جوانب تحقيق متروخين، لم يكن متعمدا بالتأكيد، وكان لا من الاحتراس أكثر من معد التحقيق بأن يعرف أكثر ويستنتج أقل، وألا يضع رجله في طريقٍ شائك.

دلالات