التربية على اللاعنف

التربية على اللاعنف

13 ابريل 2018
+ الخط -
ينظر إلى العنف أنه نتاج خلل وتناقض كامن في البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويتخذ صوراً عدة، منها: ضعف التكامل الوطني، وتنامي النزعات الانفصالية، وغياب العدالة الاجتماعية، وحرمان قوى اجتماعية من حقوقها السياسية، وعدم إشباع الحاجات الأساسية لقطاعات مهمشة، والسقوط في فخ التبعية لأجندات خارجية.
ولما كان اللاعنف والسلم الاجتماعي قائما على ضمان الحقوق والحريات، وكانت الحضارة قائمة أساساً على تقليص العنف، كان من الضروري تعظيم شأن ثقافة اللاعنف، وتربية الأطفال منذ نعومة أظفارهم على حقوق الإنسان والديمقراطية، وهذا ما يشترط في الأساس أن تستقي التربية نفسها من مبادئ اللاعنف وقواعده ومناهجه (تبدأ التربية من لاعنف التربية).
وعليه، فإن مصطلحا ما ينطوي تحت اللاعنف أو السلم الاجتماعي سيكون غرضة الاعتراف بالكرامة المتأصلة في أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة. ولعل هذا ما أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998، واعتبرت على أساسه الفترة (2001-2010) عقداً دولياً لتشجيع ثقافة السلام واللاعنف لصالح أطفال العالم.
ولكن بالإطلاع على الأدب التربوي والسياسي المتعلق بثقافة التسامح واللاعنف والسلم الاجتماعي، يجد من التداخل ما يجد بين المصطلحات إلى الحد الذي يجزم فيه أنها جميعها متراكمة، فالتحول الديمقراطي على سبيل المثال في أي مجتمع، هو رهن بنشر ثقافة اللاعنف وتعزيز حقوق الإنسان، وتحويلها إلى سلوك يحكم علاقات المواطنين ببعضهم من جهة، وعلاقتهم بالمؤسسات من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن المجتمع قد أوجد المؤسسات التربوية والاجتماعية بهدف تنمية الإنسان ونموه من جميع جوانبه، إلا أنه حالياً أول ما يمارس العنف من خلال سياسات التسلط، والحد من الحريات.
وهناك عدة تفسيرات للعنف، أولها، التفسير النفسي، حيث يتولد العنف أو عدم التسامح نتيجة الإحباط، فأي حاجز يحول دون تحقيق إشباع حاجات الطفل ينمي لديه الشعور بالإحباط، ويؤدي إلى سلوكٍ عدواني يتسلط فيه على الآخرين وعلى الأشياء.
التفسير الاجتماعي، حيث يرى العاملون في ميادين علم الاجتماع أن التراجع في السلوك اللاعنفي أو سيادة السلوك العنفي يأتي من خلال التعليم ليس على مستوى المؤسسة التربوية فقط، بل بما تعززه البيئة، فيقترن ضعف السلم الاجتماعي بالانحلال في نسيج العلاقات الاجتماعية.
وبعيداً عن النظريات المفسرة للعنف وانسحاب اللاعنف، مثل النظرية البيولوجية أو نظريات الإحباط أو النظرية السيكولوجية أو نظرية الصراع، فإن أهم مداخل تحقيق ثقافة اللاعنف والسلم الاجتماعي، هما: التسامح والتربية على حقوق الإنسان، فالتسامح يقوم على مجموعة من المبادئ والركائز، أهمها أنّ البحث عن الحقيقة يكون لذاتها لا لهزيمة الآخرين، والاعتراف بأنّ الكل معرّض للخطأ، وأنّ الإقرار بظاهرة التعددية أمر طبيعي، وأن الاختلاف سنة كونية، وأن يكرم الإنسان لإنسانيته فقط بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى كالجنس أو العرق أو اللون أو المكانة أو...، وأنّ التسامح على المستوى الإنساني يتجلى في القدرة على قبول الآخر المختلف واحترامه.
وليست هناك تجربة عبر التاريخ أنجح من التجربة الإسلامية الأولى في نبذ العنف وتعزيز التسامح من خلال مرحلتين، الأولى، من خلال تطهير التربية من كل الأفكار والأيديولوجيات القائمة على التعصب والتميز، والإقصاء والتهميش والكراهية والنبذ والعنصرية والفئوية، وجميع الأفكار المناهضة لقيم التسامح. والثانية، من خلال تعزيز قيم التضامن بين الأجيال وتوسيع مدركات الأطفال والشباب حول المردود الإيجابي لمبادئ الحب والحق والخير، والرفق واللين والسخاء والمشاركة والمواطنة الصالحة، والأخوة الإنسانية.
ولعل من التجارب الدولية المعاصرة الناجحة في تعزيز ثقافة اللاعنف والتسامح التجربة الألمانية، حيث قام، فريدرش ناومان، بأول تجربة للتثقيف المجتمعي والسياسي عام 1918، من حيث التركيز على الأطفال، وعلى أساس ذلك أنشأ معهد بون ليكون المركز الرئيس للتثقيف المدني في ألمانيا، هدفه تأهيل قيادات الأحزاب السياسية والمجتمعية على مفاهيم التسامح والمشاركة وقبول الآخر، وتقديم المبادرات المجتمعية لمساعدة الأطفال على تعزيز ثقافة التسامح واللاعنف.
على الرغم من أن من الواجب ألا يحتاج الإنسان إلى تربية في حقوق الإنسان، إلا أن اللامبالاة المجتمعية والسياسية أفرزت سلوكيات مجتمعية، انتهكت الحقوق، وأدت إلى ظاهرة التسلط والتنكر للآخرين في عالمٍ تشح فيه الفرص والعدالة.
وقد كشف التاريخ الإنساني وجهتين متناقضتين للعلاقات الإنسانية، أحدها تعبّر عن الحرية، وأخرى عن القهر والاستبداد الاجتماعي. ومن أجل ذلك، كان التاريخ الإنساني سلسة من الكفاح والنضال من أجل الحقوق.
50910796-8FDC-4657-8A3B-573B24A2C9A4
50910796-8FDC-4657-8A3B-573B24A2C9A4
محمود عبد المجيد عساف (فلسطين)
محمود عبد المجيد عساف (فلسطين)