ستيفن هوكينغ

ستيفن هوكينغ

17 مارس 2018

هوكينغ في نيويورك.. جعل من الكون "طفله الصغير" (12/4/2016/Getty)

+ الخط -
لا أحد منا يمكنه نسيان لحظات محددة، مرّت في خياله طفلا. لا يمكن نسيان مشاهد "لحاق القمر بنا" قبل الولوج إلى أحضان أمهاتنا، ولا نسيان كيفية رؤيتنا القمر بدراً أو هلالاً، ونمحصه تحليلاً طفولياً في بالنا: "هل أكله غولٌ ما أو ابتعلته الظلمة؟". لا أحد ينسى كيف كان يمضي بضع ساعاتٍ يراقب النجوم، ويعدّها، أو يقول لهم بعضهم: "لا تعدّ النجوم كيلا تتحوّل إلى حبوب على جسمك". لا أحد منا لم يسأل يوماً بداعي الفضول "ماذا يوجد هناك، فوق، في الفضاء الرحب؟". جميعنا تقريباً كان لنا سؤال واحد أقلّه، أو أسئلة لا تعدّ ولا تحصى عن الكون ووجوده ووجودنا فيه.
ستيفن هوكينغ ذهب إلى أبعد من ذلك. جعل من الكون "طفله الصغير"، قضيته الخاصة. التفاصيل العلمية قد لا تكون بارزة أو مهمة لبشر كثيرين، لا لأي سبب سوى لأن الاهتمامات اليومية، ومساحة العيش الضيقة، لا تسمحان لنا بكثير من التحرّك ولا حتى التفكير. هوكينغ فكّر عنا، وجعل من الكون سحرا نفككه شيئاً فشيئاً، في سياق المعرفة التي يُفترض أن تصبح إلزامية في وقت ما من تاريخنا البشري. بتنا نعلم أن الكون غابة من التعقيدات الرياضية، لكنه في الوقت عينه في غاية البساطة إن شئنا. وجودنا بحدّ ذاته متأتٍ من سياق كونيّ وُلد منذ نحو 13.7 مليار سنة، ووصولنا إلى هذه المرحلة من الزمن، في ظلّ تقدّم معرفي هائل، لم يكن ليحلم به أحد، ولا حتى أي إنسان في الماضي، ما يفسح المجال أمامنا بإزاء تسارعٍ علمي كبير، يشرّع الأبواب لنا لغزو الفضاء في عقودٍ لاحقة.
كان هوكينغ نفسه يؤمن بهذه الفرضية، على أن حتميتها تأتي من صلب حياتنا الإنسانية، وكيفية تدبير علاقاتنا البشرية بين بعضنا بعضا، فبمعزل عن الأعراق والأديان والثقافات والقوميات، هناك أمور تجمعنا نحن البشر. البدهيات تجمعنا. جميعنا ننام ونأكل ونشرب وندخل المراحيض. جميعنا نتنشق الهواء نفسه، ونسبح في المياه نفسها. جميعنا نتكيّف قدر الإمكان في مختلف البيئات الطبيعية. جميعنا يخترع إشاراتٍ تعارفية مع الآخر. يُمكن جمع شخصٍ من اليابان وآخر من أيسلندا وثالث من بوليفيا في جزيرة مهجورة، وسيمكنهم التواصل، ولو لم يعلم أي منهم لغة الآخر. وحدها الحواجز التي نصنعها تصبح مدخلاً للدمار، متى تحوّلت من حواجز تنظيمية لمسار حيوات المجتمعات إلى نقاط انطلاق لدمار الآخر.
كان هوكينغ يعلم ذلك، وكان يطالب بالعدالة الإنسانية، لأن أبسط مبادئ مواجهة المستقبل تنطلق من وحدة المعنيين بالمواجهة. كل البشر معنيون بمواجهة نيزكٍ ما قد يدمّر الكوكب. ألسنا نردّد و"نطالب" أحياناً بنيزكٍ يضربنا لنتخلّص مما يحيط البشرية من آلام وحروب وجوع وفقر وغيره من سلبياتٍ أُنتجت بفعل تحوّل الحواجز إلى دمار لنا؟ لا تتطلب مواجهة ذلك نيزكاً، بقدر ما يتطلّب إدراكنا لحقيقة وجودنا بشرا على هذا الأرض. لسنا ملزمين بقتال بعضنا بعضا، ففي الأرض ما يكفي للجميع. ولسنا ملزمين بمعاداة بعضنا بعضا وفقاً لمعتقدات دينية أو سياسية أو قومية أو عرقية. بعضنا ليس بحاجة لتبرير "كيفية وقوفه إلى جانب فئةٍ مظلومة، ولو كانت من غير طائفته أو دينه أو قوميته أو عرقيته". هذا ما يجب التخلّص منه. الإسقاطات النمطية المبنية على ما صنعته الحواجز على مرّ التاريخ. هل يمكننا التحرّر من ذلك؟ نعم، تكفي بضع دقائق من التأمل يومياً بشأن سلوكياتنا، باعتبارنا بشرا، لإنهاء مبدأ "التاريخ يعيد نفسه"، حينها نخطو خطوة جبّارة نحو الخروج من قوقعتنا. وصحيحٌ أنه إذا كان العالم يدين بالكثير لألبرت أينشتاين في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه يدين بالكثير لستيفن هوكينغ في النصف الثاني منه، وفي الربع الأول من القرن الحالي.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".