عن خطبة عباس

عن خطبة عباس

22 فبراير 2018

عباس لمجلس الأمن: نحن سلطة بلا سلطة (20/2/2018/فرانس برس)

+ الخط -
إنه محمود عباس الذي تحدّث أمام مجلس الأمن الدولي، أول من أمس، وليس جورج حبش ولا تشي جيفارا ولا إسماعيل هنية ولا باتريس لومومبا. ولذلك تبدو المرافعة التي بسطها أمام مستمعيه "تقدميةً"، إذا جاز استدعاء هذا الوصف من معاجم لغةٍ آفلة. ومبعث هذه التقدمية أن الرجل لم تطأ قدماه يوما غير أرض السياسة، ولم ير يوما غير السلام مع إسرائيل هدفا للشعب الفلسطيني، ولم يذهب تفكيره، في أي وقت، إلى غير المفاوضات سبيلا لإنهاء الاحتلال، ولإقامة الدولة الفلسطينية. وصدورا عن هذه الاعتبارات، وحواشٍ لها جزئيةٍ وتفصيليةٍ، بدا محمود عباس ثوريا، وهو يرفض رعايةً أميركيةً لمفاوضاتٍ شدّد على سعيه إليها، ويطلب "تشكيل آليةٍ دوليةٍ متعدّدة الأطراف" لرعايتها. وبدت علائم "الثورية" على محيا الرئيس أكثر وأكثر، عندما بقّ البحصة، وقال إن السلطة الوطنية الفلسطينية بلا سلطة، وتعمل لدى المحتل الإسرائيلي الذي يمارس احتلاله بلا كلفة، وأعْلمَ "الجميع" بأن بقاء هذا الوضع على ما هو عليه غير مقبول. 

ليس لأن المطرح الذي انتظمت فيه جلسةٌ لبحث "الحالة في الشرق الأوسط" هو مجلس الأمن، جاء منسوب السياسة غزيرا في خطبة عباس، بل لأن الثقافة السياسية للمتحدِّث تأنفُ من الإشارة إلى أن شريعة الأمم المتحدة، والقوانين الدولية التي صدرت تحت مظلتها، تؤكد حقوق الشعوب في مقاومة محتليها، وفي صدّها الاعتداءات عليها. وعلى زحمتها، لم يؤثر محمود عباس الإتيان على واحدةٍ من هذه الاعتداءات. كان في وسعه، وهو يشير إلى مدارس ومكتباتٍ ومسارح بناها الفلسطينيون، وإلى مؤسساتٍ أقاموها منذ صارت السلطة الوطنية في 1994، أن يقول إن إسرائيل استهدفت، في اعتداءاتٍ بلا عدد، كثيرا من هذه المؤسسات، ومدارس عديدة، بل ونهبت مكتبات فلسطينيىة أيضا. لم يهتد من كتبوا للرئيس خطابه إلى إيضاح شيءٍ من هذا، بل بدا أن إسرائيل لم ترتكب شيئا سوى أنها لم تستجِب لمقتضيات السلام في كل سنوات الاحتلال. ترفض حل الدولتين، وتتهرّب من تنفيذ القرارين 181 و194 الأممين اللذيْن كانا شرطا لقبولها عضوا في الأمم المتحدة. هذه جريرتُها، ولا جرائم اقترفتها في استباحاتٍ لا تتوقف لأرواح الفلسطينيين وأملاكهم وأرزاقهم وأراضيهم ومياههم.
لم تخلُ خطبة عباس فقط من توصيف إسرائيل كائنا معتديا، مسلّحا بقوةٍ عسكريةٍ تستضعف بها الفلسطينيين الآمنين في منازلهم وحقولهم ومدارسهم، وإنما إلى هذا الأمر، وكذا حق الفلسطينيين في مقاومة المحتل، بموجب شرعة الأمم المتحدة، خلت من التذكير بأن للشعب الفلسطيني خياراته الأخرى، المفتوحة، إذا قوبلت "خطة السلام" التي عرضها عباس بالتجاهل الدولي، والازدراء الإسرائيلي، والاستخفاف الأميركي، وهذا كله هو ما لن يحدث شيءٌ غيره. وكان مثيرا للإشفاق أن الرئيس الفلسطيني جاء على مبادرة السلام العربية، من أجل "حلٍّ متفق عليه" لقضية اللاجئين الفلسطينيين (على أساس القرار 194)، فأرشيف هذه المبادرة يوضح لمن تابع عقابيلها، في 15 عاما مضت، أن لا أحد من المسؤولين الإسرائيليين اكترث بها، لا قدحا ولا مدحا، على الرغم مما أنفقته الدبلوماسية العربية من وقتٍ وجهدٍ (ومصاريف) لتسويقها. وبدا أن تعامل حكومات الاحتلال معها لم يختلف كثيرا عن الهزء الذي استُقبلت به مبادرة معمر القذافي عن "إسراطين" التي شكلت جامعة الدول العربية لجنة متابعة بخصوصها.
يمكن الاتفاق مع مضامين سياسية اشتملت عليها مطالعة محمود عباس أمام مجلس الأمن، غير أن المسألة ليست هنا، ولا في مناطق الاختلاف مع مضامين أخرى في الذي أشهره الرجل أمام الملأ (مع الاعتذار عن تقليديّة هذه المفردة)، وإنما في الفجوة المهولة في فداحتها بين من يراهن على أملٍ في منتدىً كلاميٍّ في واحدةٍ من قاعات الأمم المتحدة في نيويورك ومن يراهن على صلف القوة الفائضة لديه، أي بين من يخنق نفسه في حالة العاجز الشاكي ومن يستأنس في نفسه التجبّر والاستقواء. ولأن هذا هو الحال، معطوفا على مناخ فلسطيني مهترئ، على غير صعيد، فإن جلسة مجلس الأمن، وقيل ما قيل فيها، من عبّاس وممثلي إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما، ستضاف وثائقها إلى أرشيفٍ مثقل بكثير مثلها، إلى أن يستجدّ طارئ أو مفاجئ.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.