قص ولصق

قص ولصق

21 فبراير 2018
+ الخط -
يوم جديد من أيام القاهرة الحارة، ارتديت قميصاً وردياً، و جدّلت شعري القصير، أصمّم على تجديله، رغبة مني ربما في استعادة ذاكرتي الطفولية، أو لوقاية نفسي من الحر، خرجت متحمسة إلى موعدي.
أو هو يوم غائم من أيام القاهرة، المتقلبة المزاج، ارتديت قميصاً وردياً بياقة، لأقاوم به الطقس العكر، قميص وردي، هدية من صديقتي، كنّا اعتدنا أن نتبادل الهدايا، أنا وهي. لكن ذلك لم يعد موجوداً، لعلنا تأكدنا أن صداقتنا لا تحتاج إلى هدايا تمتنها، أو أن بعدنا القسري، وكل منا في بلد مختلف اليوم، أفقدنا هذا الاهتمام، خرجت مسرعةً كي لا أتأخر عن موعد مقابلة العمل.
أو أنه كان يوماً حاراً، مثل معظم أيام القاهرة، ولم أعرف ما أرتدي، اخترت قميصاً وردياً لا أحبه، كانت إحدى صديقاتي قد أحضرته لي، كيف اعتقدت أنه يمكنني ارتداء هذا النوع من القمصان، الفتيات غريبات، يهدونك أشياء لا تناسبك، ويدّعون صداقتك مع ذلك. ربما سيفي هذا القميص بغرض النزول إلى الشارع لشراء البزورات والبوظة في محاولةٍ لنسيان هذه الأيام الحارة، لكنه سيُرمى بعد ذلك.
ما هي الخبرية الحقيقية، جميعها قابلة للتصديق، إذ ليس مهماً أي منها أكثر قربا من الحقيقة، أختار واحدة منها، لا على التعيين، أعتبرها الواقعة الفعلية، أعيد روايتها مجدداً، أكررها، تصير تاريخي وحقيقتي. هذا ما يفعله الغرباء، نعيد سرد حياتنا كما يحلو لنا، نهمل أجزاء ونكرس غيرها.
ما أجمل أن تتيح لك الحياة مرة أخرى أن تعيد صياغتها، كأنك قد عشت سلفا، وأنت تملك حياةً واسماً وأهلاً وعملاً، وقد كونت ما تسمى "شخصيتك". ولكن يمكنك الآن أن تحذف أحداثا، وتعيد ترتيب أحداث أخرى، يمكن أن تخترع شخصيات وعناوين وحوارات في لعبة جميلة ومسلية.
وكأنني في استديو للمونتاج، لدي جهازي وبرنامجي الخاص، أقوم بتصنيع صورة كاملة، وعن طريق تجميع صور مختلفة أخترع كلاً جديدا، تمكن مشاهدته منسجما متماسكاً.
أستطيع فيها الإبقاء على ما أريد وحذف ما أريد، يمكنّني تغيير تتابع الأحداث فيصبح الماضي البعيد واقعاً قريباً، ويصير ما حدث بالأمس فقط، جزء من ذاكرة غائمة. هذا القص واللصق متاح للغرباء، الواصلين للتو إلى موطن جديد، معرفتهم بالمكان الجديد، وعلاقتهم معه لا تاريخ لها بعد، يمكنهم، هنا، صناعة ماضيهم كما يحبون ويشتهون.
ليس الغريب وحده من يصنع ماضيه، لست وحدي التي تعيد ترتيب حكايتها، لعل كل شيء يسير على هذا النحو، يجلس آخرون في غرفة مونتاج هائلة، ويمنتجون التاريخ كله، يخبرونا بما يشاؤون ويحذفون ما يشاؤون، فنحن لم نكن هناك، وليس لنا إلا أن نأخذ ما يخرج بعد عمليات القص واللصق، إذ كيف لنا أن نعرف الحقيقة، لا حقيقة سوى ما نعيشه، التاريخ الشخصي، كالتاريخ كله، إعادة تركيب للأحداث، مونتاج، لا تكون فيه حياتنا الفعلية، الحقيقة المباشرة، أكثر من مادة خام، تستخدم و تتحول.
يبقى أن نعرف كيف تتحدد أهمية الحكايات، ما الذي يجعل من رواية تخرج للتو من غرفة المونتاج أكثر سطوة من سواها، كيف تتراتب الحكايات وتزيح بعضها بعضا. بالتأكيد، لا يمكن للاختلاف على دوافع ارتداء قميص في يوم حار، أن يساوي الاختلافات على بدايات حرب ما. لكني ألتفت، وأرى حكاياتٍ تمحو حكايات أخرى، الماضي القريب الذي كان يبدو كالبداهة يتحول إلى سؤال، كأني أجلس في غرفة مونتاج صغيرة، لا يمكنني أن أتعرف ماضيّ، إلا فيما بقي منه، و ما بقي لا يصلح أكثر من دليل على الغياب.
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
خولة أبو سعدة (سورية)
خولة أبو سعدة (سورية)