يكتبون لمن لن يقرأ

20 ديسمبر 2018
+ الخط -
إشارات معرض الكتاب العربي أخيرا، في بيروت، لا تخطئ عينا. جمهوران يتقاسمان ملعبه: الكهول، الواقفون على توقيع كُتب كهول آخرين. والشباب والصبايا والمراهقون والأطفال الذين يتنزهون في ممرّاته، محاولين الانشراح مما يقدمه المعرض من الاجتماع تحت خيمةٍ واحدة، مزَّينة بالألوان والأصوات والزحمة والكافتيريا. وهذا الجمهور لا ينقصه التنوّع في غرضه من المعرض: شراء أشرطة سي دي، للأطفال خصوصاً، أو "غادجيات" طريفة مسلية؛ أو الالتقاء بالمعارف والأصدقاء بعد غياب، أو مجرّد التمتّع بالمشي بين الناس، هكذا من دون هدف محدّد سوى الشعور بالحرارة العامة.
وأصلاً، هل يجد الأهل من بينهم كتباً جديدة لأطفالهم في المعرض؟ أو كتباً لا تكون مترجمة، ولا صاحبة مواعظ فجّة؟ لا ينفرون منها، وإن قرأوا، فضّلوا الكتب الأجنبية؟ لا كتب جديدة للأطفال، أي أنهم لن يألفوا قراءة الكتاب، العربي على الأقل، وسينضمون بذلك إلى جيلٍ سبقهم، ممتنعٍ عن القراءة، وربما جاهل بوجود مادتها، بوجود أهلها.
أما الذي تجلّى أكثر من أي عام من أعوام المعرض، فأن أصحاب البواكير من الشباب بقوا أصحاب بواكير، كالذين سبقوهم من نظرائهم. أي أن الشباب الذي يكتب كتاباً هو الأول من تأليفه، يكون غالباً رواية، و"ساخنة".. لا تكاد تحفظ اسمه حتى يختفي من شاشة المعرض. أين يذهب أصحاب البواكير؟ هل كانوا يعتقدون أن أبواب الجنة الثقافية سوف تشرّع أمامهم لمجرَّد صدور باكورتهم، فيتشجّعون على كتابة المزيد؟ هل كانوا يتوسّلون من كتابة الكتاب شيئاً من رغد العيش، أو من الإحتضان، أو الإعتراف، أو النقاش لإنتاجهم، فخاب ظنهم ولاذوا في عدم الجدوى، وتوجهوا نحو مهنةٍ أخرى؟ حياة أخرى؟
في معرض هذه السنة، ظهرت باكورتان أو ثلاث وسط حشد من الكهول، وبعض هؤلاء شبه 
منتظم بإصدار كتابٍ في كل معرض. وإذا دقّقتَ النظر أكثر، سوف تلاحظ أن من بقي من الشباب مهتماً بالكتب، ينكبّ على نجومٍ غازلوا حواسّهم، شاهدوهم على التلفزيون، "مفكرين" أو "مبدعين"، فاستجابوا لتألّقهم الإعلامي.
ثم ماذا تعلم أنتَ، بعد ما يشترون، إن كانوا سوف يقرأونها؟ ألم تسمع بذاك الذي كان يتفاخر بقراءة كتب، عرف ملخصها؟ داخلاً على الجمع، وهو يتأبط الجرائد والكتب، كفعل ضرورة أو انتماء؟ وهذه نَزوةٌ كانت رائجة أصلاً في "العصر الذهبي" للقراءة، أيام شبابنا، في سبعينات القرن الماضي، عندما كان معرض الكتاب واقعاً في قلب المدينة، في أول شارع الحمراء؛ كان معرضا "عضوياً"، منخرطاً في المدينة، لا مرْمياً على أطرافها المعْتمة الموحشة. كنا نأتي إليه جماعاتٍ، طلاباً جامعيين ينافسون أساتذهم على القراءة، ندخل فرِحين بالغنيمة المقبلة من الكتب، وننوي التعرّف على جديدٍ صدر بلذّة المستكْشِفين، نمازح الكتّاب، نسألهم عن الوقت الذي استغرقت فيه كتاباتهم، عن الإحساس الأول، والإحساس الثاني بصدور الكتاب. كنا شبابا، وكنا نقرأ. الآن، صرنا كهولاً، وما زال بعضنا يقرأ، فيما الشباب لا يقرأ، ولا يطمح الموهوب بينهم إلى أن يصبح كاتباً، بلا مردود، لا مادي ولا معنوي.
يقف الكاتب اليوم أمام معضلة حقيقية. يتناقص القراء بالوتيرة نفسها التي تتعاظم فيها مجالات التسلية والاستهلاك بالتكنولوجيا، كما بالحياة؛ هذا الانحدار، أو اللاتطوّر المعرفي، أصبح عالمياً، وليس مقتصراً علينا. ولكن نحن الطليعة في اللهاث خلفه، وفي استسهال تبنّي نماذجه. وعزوف الجيل الجديد، الناجح في حياته، الذي لا يحتاج إلى القراءة ليشقّ طريقه فيها، هو رجل المستقبل.. وهذا يعني أن لا قرّاء للكتاب، ومع رحيل جيل الكهول، لا كتّاب ايضاً. أي صحراء بصحراء. مبالغة؟ ربما. ولكن الخيوط العريضة بدأت تظهر نتوءاتها، موقعةً الكاتب في حيرة من انتهى زمنه، قبل أن تنتهي حياته: لماذا هو يكتب، طالما أن الحاضر لا يكافئه، وطالما أن المستقبل سوف يتجاهله؟ هو الذي يحلم بتخليد اسمه ووضع نتاجه ضمن كلاسيكيات الآداب أو السياسة، ها هو يهبط، قبل الصعود، بما يخلّ بتوازنه: إذ يعرض أكثر بكثير مما يُطلب منه. فلماذا الشقاء إذن، والتعب؟ والتنسّك؟ والقلق من الفكرة، من المخيّلة؟ لماذا كل هذا الجهد والاجتهاد؟ طالما أن مصير اسمه هو النسيان، غداً أو بعد غد؟
الكاتب المحبّ لعمله يشبه أصحاب الحرف المندثرة. كانوا في أيام انقراضهم الأولى مصرّين 
على مهاراتهم، مثابرين على تثبيتها وإحيائها، يكتفون بالقليل من زاد الدنيا، بالسّترة ربما، يصرّون على تقاليدهم المهنية، يبرعون في اختراع حماياتٍ جديدة لمهاراتهم. ومن حالَفه الحظ من بينهم كان رمزاً لجماليات العهود السالفة، وصار الآن ملهِماً لكل المنجذبين نحو الفنون التقليدية في الصناعة، والباحثين في تاريخه عن تاريخ المجتمعات. ما حافظ على مهارتهم كان حبهم مهنتهم. وكتابنا الآن يشبهونهم. لا النجومية تنفعهم لمستقبل اسمهم، ولا الشهرة، ولا المال، ولا المعنى.. طالما أن الوثْبة المستقبلية مفقودة. وحده فضولهم، ندواتهم، غيريّتهم، حبهم الكتابة، حبهم القراءة، وفرحتهم بهما، يحمونه من الإحباط؛ مثل الحرفَي التقليدي. لعلّها تأتي عصور أخرى، تتذكّر الكتابة والقراءة، لداعٍ من الدواعي، فتخرجها من المتاحف، تنفخ في غبارها، تزيلها، وتشرع في قراءة كتب الأقدمين، على تفاوت مستوياتهم، وربما تخترع لنفسها مستوياتٍ، تستوحي منها تاريخاً، أو حدثاً، أو أسطورة مؤسِّسة.. هل من أملٍ آخر لأصحاب النصوص يسكنون إليه؟