لبنان يترك نفسه ينهار

لبنان يترك نفسه ينهار

30 نوفمبر 2017
+ الخط -
في لبنان، نحن الآن أمام معادلة باطلة قوامها "دعامتان": الأولى: إذا أردنا حماية لبنان من مطْحنة الحروب الدائرة بجواره، فطالبنا حزب الله بتجيير سلاحه وخبراته للجهة الرسمية المخوَّلة بالدفاع عن لبنان، فذلك يؤدي إلى انهيار لبنان، لأن الجهة التي سوف تتسلم هذا السلاح هي نفسها بحاجة إلى من يصلحها، يوسع صلاحياتها، يوضح "سياستها". هذا إذا افترضنا أن حزب الله سلم لها سلاحه برضاه. وهذه بحد ذاتها ثورة، لن تتحقّق إلا بتثوير المحيط القريب والبعيد. فيما الحرب التي شارك فيها حزب الله رست على معادلات "انتصاره" على الإرهاب. وأحد قادتها، أي الإيراني، يتنافس مع الروسي على بطولة هذه "الانتصارات"، وعلى قيادة النظام السوري. وكان الأخير بيضة قبان "استقرار" النظام اللبناني، حتى اغتيال رفيق الحريري.
ولأن القرار على كل حال ليس بيد حزب الله، وقد وردتنا الرسالة مباشرة من طهران، على لسان قائد الحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، رداً على من تساوره نفسه التخلص 
من صواريخ حزب الله أو تجييرها، "إن نزع سلاح حزب الله غير قابل للتفاوض". أي أن الرأس الذي سوف يعانده ليس حسن نصر الله، إنما "المرشد الأعلى"، علي خامئني، قائد دولة تتجاوز قدراتها الشعب اللبناني المغلوب. ولأن مجرّد التفكير بحمل السلاح بوجه هذا السلاح سوف يكون تأمين الدخول في مطحنة حربية أخرى، أين منها هجمة 7 أيار 2008 على بيروت الغربية، وضحاياها الـ85، مجرَّد مزحة.. لا تختلف كثيرا عن المقتلة السورية. وإذا تصوّر بعضهم أن إسرائيل وحدها قادرة على ذلك، وقد تمتنع الآن ولكن ربما غداً... لا أحد يعرف، فإن الثمن الذي سندفعه لن يكون أقل من تدمير لبنان، من دون تحقيق غرض نزع السلاح. خلاصة هذه الدعامة: نزع سلاح حزب الله يضرب الاستقرار.
أما الدعامة الثانية لهذه المعادلة الباطلة، فتقول إنه إذا تغاضينا عن سلاح حزب الله، فإن ذلك أيضا سيضرب استقرار لبنان. لأننا سوف نبقى في حالة اشتباك عسكري بالمحيط. "يتنازل" حسن نصر الله عن اليمن والبحرين وبعض الشكليات الأخرى. لكن يبقى سلاحه بإمرة مصالح غير لبنانية، غير عربية، منخرطة بكثافة في حروب المحيط هذه. وهو لم يقل لنا بالضبط ما هي التوجهات العسكرية المقبلة، بعد "الانتصار على الإرهاب" في سورية. ربما قيادته لا تعرف أيضا.
ولكن المهم أنه بسلاحه "الصاحي" هذا، يستنزف الحزب كل طاقات لبنان على الوجود، من الاقتصادية إلى الأمنية. ثم لأن الثمن الباهظ الذي تدفعه الطائفة الشيعية من دماء أبنائها، كرمى عيون حزب الله.. هذا الثمن أعلى من أن ينتهي بإلقاء السلاح. ولأن المعركة "الإقليمية" مستمرة، فإن دماءهم على كفهم، لكنهم لا يختلفون عن بقية اللبنانيين، من حيث استهلاك طاقاتهم، ومن حيث افتقارهم إلى "خيارات". من يتذكر الشعار المرفوع منذ عقد، ضد أنصار "المقاومة"؟ كان برّاقاً ذلك الادعاء بأن خصوم "المقاومة" هم دعاة "بناء الدولة". طبعا لم تكن مقاومة ولا بناء دولة. إنما هو فرق بالإرادة، بين مصمِّمين على "مقاومتهم" وعازفين عن "بناء" دولتهم؛ والنتيجة، أن لا دولة قائمة في وسعها استقبال تاركي السلاح. وخلاصة هذا الشق: الإبقاء على سلاح حزب الله سوف يصيب أيضاً الاستقرار.
لن نفلح في أية معادلة متخيَّلة، كلها غير ممكنة. لا في التخلص من السلاح، ولا في الإبقاء عليه. من أجل الاستقرار وعدم تحول لبنان إلى سورية أو عراق ثانية. لا نملك شيئا غير الوقت. أو بالأحرى لا نملك أي وقت. لا الحالي ولا المستقبلي. نحن عالقون في هذا الوقت، واقعون في فخّه.
ولمعرفة الفرق، لا نذهب بعيداً: قبل سنواتٍ قليلة، كنا شديدي الحماسة لوصف وقتنا 
بـ"المتخلف". كنا نتوق إلى "اللحاق بالركب"، ونمشي بخطىً أسرع، كي نكون على "مستوى" العالم الذي نحسد. الآن يختلف علينا الوقت. لم يعد وارداً طبعا التفكير أو التخطيط للمستقبل، حتى ولو كان منظوراً. كل ما نتكبّده الآن هو التعلق بقشة الإستقرار الهشّ الذي يمشي على خط رفيع يفصل ضفتَي الانهيار.
من باب الحكمة، سيكون علينا أن نسعد بهذا الحظ، وبهذه اللغة التي اخترعت كلمات مطابقة للفخ: "التريث"، "النأي بالنفس"، "المشاورات"؛ ثم عبارات من نوع: "ليُبنى على الشيء مقتضاه"، أو "لننتظر ونر".. إلى "أجل غير مسمَّى". تليهم وتلازمهم "جلسات الحوار الوطني" لتمتلىء الشاشات بالكراسي والطاولات، حيث يستجيب "الأقطاب" المشاركون لطلب حزب الله بتجنّب البحث في النقطة الخلافية الأساسية، أي سلاحه.
وسوف ينقضي وقتٌ كثير، ونحن مطوقون بهذا الوقت المجمَّد، الذي ينتظر.. وسوف نخترع له مزيداً من الكلمات المليئة بالصيغ المتخاصمة، كلمات تشبه واقعها الذي يكتنز في أعماقه معادلات باطلة كالتي تحكمنا الآن. من أن نترك أنفسنا ننهار، إذا حاولنا، مجرّد محاولة، منع أنفسنا من الانهيار. ولا يبقى للمجانين، طالبي الاستقرار لهم ولذريتهم إلا الرحيل عن هذه البقعة التي تحوِّل الوقت إلى كلمات، والكلمات إلى واقع حيّ، والواقع الحيّ إلى خزعْبلات، والخزعْبلات إلى خشبة مسرح، لن تجد في الدنيا كلها ما يسلّي أكثر منها.