الجريمة المبهجة

الجريمة المبهجة

15 ديسمبر 2018

(عصام معروف)

+ الخط -
من ألطف الأخبار أخيرا، وأكثرها غرابة، اختلاس الراهبتين، ماري كريوبر، ولانا تشانج، خمسمائة ألف دولار، من المدرسة التي تتبع إحدى الكنائس، وتعملان فيها في أميركا، والذهاب إلى لاس فيغاس لممارسة واحدة من ألعاب القمار التي أدمنتا عليها عشرة أعوام. واللافت في الخبر أيضا أن مديرا سابقا للمدرسة كان على علم بما تفعلانه دائما، لكنه فضل أن يبدو جاهلا بما يحدث، حتى تقاعده واكتشاف المدير الجديد الأمر، وإخباره الشرطة، واعتقال الراهبتين بتهمة السرقة والاختلاس.
من وجهة النظر القانونية، الحادثة الطريفة جناية، فقد اختلست الراهبتان مبلغا كبيرا، والقانون سيحاكمهما بوصفهما لصتين، قامتا بفعلتهما عن قصد وترصّد، وسيحاكم المدير السابق للمدرسة بوصفه شريكا متواطئا، كونه تكتم عن الفعل الجنائي. ومن وجهة النظر الأخلاقية، أساءت الراهبتان استخدام وظيفتهما، لأنهما استغلتاها لأغراضٍ شخصية، وقدمتا مثالا سيئا عن مهنتهما في التعليم الديني لتلاميذ المدرسة، فهما خائنتان للأمانة وعديمتا الذمة، حسب القيم الأخلاقية التي يجب أن تسود. ومن وجهة النظر الكنسية، هما مهرطقتان، فقد مارستا أفعالا دنيوية، تُمنع على من نذر نفسه وجسده لخدمة الرب، فكيف إذا ترافق هذا مع جريمة جنائية كالاختلاس؟! فعل الراهبتين وتستر مدير المدرسة خطآن بكل المعايير المرتبطة بالأخلاق والقوانين المنزلة والوضعية. ولا عجب إن تم الحكم عليهما حكما قاسيا، فلا أظن أن أحدا من القضاة أو من لجنة المحلفين سوف يتسامح مع هذا الفعل الخارق للقانون وللناموس الأخلاقي.
ثمة وجهة نظر أخرى لا يلقي إليها أحد بالا، وثمّة متهم أول لا يحاكمه أحد. وجهة النظر هي الرغبة في التحرّر الكامل التي تراود المرء عن نفسه كل حين، الرغبة بالتخلص من كل القيود الاجتماعية والدينية والأخلاقية التي توضع على كاهل أحد من البشر، ليندفع إلى القيام بكل ما تعيق هذه القيود القيام به، بكل ما تمنعه القوانين، سماوية كانت أو أرضية، إذ ثمّة توقٌ دائم لدى البشر للخروج عن السياق الموضوع لهم. ثمّة توقٌ للنفور والتمرّد وكسر جهاز التحكم بالرغبات الشخصية والبالغة الخصوصية، كسرُه بشكل كامل، بحيث تخرج الأمور عن السيطرة، كسر جهاز التحكّم غالبا ما يكون نتيجة إحكام القبضة على الرغبات، قد تكون قبضتنا الشخصية، أو قد تكون قبضة الآخرين على رغباتنا. لا فرق هنا، إذ حتى قبضتنا الشخصية هي نتيجة ما وضعه الآخرون في لاوعينا، الآخرون الممتدون منذ مئات السنين، فالتطرّف والغلو في كبت الرغبات سوف ينتج منهما تطرّف وغلو في تحقيق هذه الرغبات حتما.
دائما ما يحصل هذا. ربما اكتشفت الراهبتان، بعد فترة من تطويبهما، أنهما لم تعودا تطيقان حالة الرهبنة، وأنهما ترغبان في العودة إلى دنيويتهما. وربما هناك ما يمنع إلغاء هذا التطويب، فلجأتا إلى الغلوّ في رد فعلهما على ذلك. الاختلاس والذهاب إلى الكازينو، المكان الدنيوي بامتياز، المناقض كل التعاليم الكنسية والإلهية، ثمّة تطرّف في رد فعلهما، لكنه مشابهٌ للتطرّف في لفظ كل ما هو دنيوي. أما المتهم الأول الذي لا يحاكمه أحد، فهو العقل، العقل الذي يحرّض على الاهتمام والسعي إلى الغوص بكل ما هو ممنوع، إذ بيّنت دراسة، أجرتها جامعة بريطانية، أن اهتمام الدماغ البشري بالأشياء الممنوعة موازٍ تماما لاهتمامه بالأشياء المسموحة. وبحسب علم النفس، ثمّة هواجس تسيطر على العقل الباطني لكل منا، تدفعنا إلى ممارسة كل ممنوع، بهدف كسر الحاجز النفسي بيننا وبين الأشياء الممنوعة، في محاولةٍ لاكتشافها والخروج عن المألوف، إذ ثمّة ميلٌ طبيعيٌّ لدى الإنسان، للخروج عن المألوف والاختلاف، دافعه الأول هو الفضول الذي يجعل رغبتنا في اقتحام العوالم المجهولة والممنوعة عنا قويةً جدا، فكل ممنوع مرغوبٌ، إلى حد الاندفاع، إلى حد التطرّف، إلى حد ارتكاب الجرائم أحيانا، إذا كانت ثمّة مغالاة في المنع. راقبوا الأطفال كيف يتحايلون ويخترعون الأساليب الغريبة للوصول إلى ما يمنعه الأهل عنهم! يفعل اللاوعي فعل الطفل، يحتال على الوعي الذي يضع الحواجز والقوانين، ليخترقها ويحقق الرغبة الممنوعة.
ليس ما سبق تبريرا لفعل الراهبتين، ولا للجرائم المرتكبة بفعل رغبات العقل الباطن، فثمّة قوانين أخلاقية وعامة يجب أن تسود، على الرغم من أنها تُخترق يوميا ممن يدعون حمايتها، وتنتهك حيوات البشر على مدى الدقائق من حماة القوانين والأخلاق، وإنما هي محاولةٌ لوضع الرغبات البشرية العادية في مكانها المناسب، والنظر إلى الشهوات الشخصية جزءا من طبيعتنا وضعفنا البشري.. شخصيا، أصنف فعل الراهبتين تحت بند: الجرائم المبهجة.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.