بعيداً.. عن العصفور الأزرق

بعيداً.. عن العصفور الأزرق

08 نوفمبر 2018

(Getty)

+ الخط -
"وأعظم ما تكلفني الليالي../ سكوتٌ عندما يجب الكلامُ"، وكلفة السكوت التي يشير إليها الشاعر عظيمةٌ فعلا، ونبدو غالبا غير قادرين على دفعها. ومع هذا، نسكت في تلك الظروف الملتبسة، لا بالنسبة لنا، بل لمن حولنا ممن يترصّدون للبحث عن الزلة ومستصغر الخلل وحسب، ذلك أن هذه المهمة هي ما يجيدون، وبالتالي يجتهدون في أدائها على أكمل وجه، بغض النظر عن موقف من يترصدّونه بحثا عن تلك الثغرات الصغيرة.
وفي هذه الأيام، حيث وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ساحة الكلام وتبادل الآراء والنقاشات، أصبحت مهمة المراقبين المترصّدين الباحثين عن الزلات والثغرات سهلة جدا، فيكفي أن يكون أحد هؤلاء من المتابعين لك في هذه المنصة أو تلك من منصات التواصل الاجتماعي لتتحوّل عندهم إلى هدف.. مجرد هدف. وغالبا لا تعتمد طريقتهم في مراقبة ذلك الهدف، وتقييمه على ما يقصده فعليا، بل على ما يفهمونه أو يريدون أن يفهموه مما يكتب، وبما يعزّز وجهة النظر التي يريدون تعزيزها عنه لدى الآخرين.
توقفت عن التدوين في حسابي على موقع التدوين المصغر "تويتر"، منذ ما يزيد على الشهر، وما زلت بعيدة عنه، وربما سأستمر كذلك فترة ليست قصيرة في معاييري التقليدية بالنسبة لتعاملي مع وسائل التواصل الاجتماعي، وطريقة استخدامي لها واستفادتي منها عادة. لم أكن أتوقع أنني أستطيع الابتعاد عن موقع التواصل الأثير بالنسبة لي طوال هذه المدة، خصوصا أنني لم أفعلها إطلاقاً في السابق، بل إن أقصى فترة ابتعاد عنه كانت في أثناء أدائي فريضة الحج قبل أعوام، وبلغت مجرد أسبوع اخترقته عدة مرات. فقد كان "تويتر" دائما يمثل بالنسبة لي النبض اليومي للكتابة والكلام والعمل الصحافي أيضا، وغالبا تبدأ موضوعاتي الصحافية ومقالاتي منه.
وعندما أجدني بصدد كتابة مقالة جديدة من دون أفكار مسبقة، ألجأ إليه، فأنجح، بعد جولة قصيرة بين أروقته، في اصطياد فكرتي، بل أفكاري الجديدة التي سأوزعها في مقالة أو أكثر أحيانا. وعلى الرغم من كثرة وسائل التواصل الاجتماعي حولي، وارتيادي معظمها بشكل منتظم، إلا أن "تويتر" تحديدا هو ما اعتدت على أن أبدأ يومي وأختمه به، قبل أن أغلق هاتفي في استراحته الليلية القصيرة. لكنني، ومنذ أزيد من شهر، شعرت بما يشبه النفور منه، لا كتابة فيه نهائيا، ولا قراءة إلا قليلا جدا. والغريب أن هذا لم يزعجني، ولم يعزلني عن أخباري ومصادرها، كما كنت أتوقع وأتعلل لنفسي وأمامها، أما مقالاتي فباتت أفكارها أكثر من قدرتي على كتابتها.
واللافت أنني وجدت خلال الشهر المنصرم، بعيدا عن اقتراحات العصفور الأزرق وزقزقاته الآنية، مزيدا من الوقت، لقراءة وكتابة أشياء أخرى بشكل أعمق من قبل، بل وجدت فرصة لترتيب أرشيفي الصحافي الضخم، وهي المهمة التي كنت دائما أؤجلها لصعوبتها البادية، بالنظر إلى كم ما تجمع في حوزتي من مواد ورقية وإلكترونية أيضا. لكنني أكاد أنتهي من هذه المهمة الآن، حتى قبل أن ينتهي الوقت الذي خصصته للعمل عليها. وهذا كله النتيجة وليس السبب؛ أي أنه كان نتيجة ابتعادي عن "تويتر" وحميميته اليومية في حياتي، وليس سببا لإقدامي على ذلك الابتعاد. وبالتالي، لن أستطيع الاستمتاع به فعلا، ولا حتى الإشارة إليه إنجازا، فالإنجاز الحقيقي أن نكتب، وأن نقول مهما كانت كلفة الكتابة وثمن الكلام، ففي لحظاتٍ وجوديةٍ كثيرةٍ، تتحول تلك الكلفة إلى أن تكون المعادل الموضوعي لحريتنا نحن البشر.. وهي الغاية الحقيقية لأي إنسان على هذه الأرض، وفي سياق معطياتها الدنيوية.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.