الرجل الذي عاش مرتين

الرجل الذي عاش مرتين

07 نوفمبر 2018

حمدي قنديل ونجلاء فتحي..

+ الخط -
لا تبدو المبرّرات التي ساقها في سبب تسمية كتاب سيرته الذاتية، الصادر قبل أربعه أعوام، بهذا الاسم "عشت مرتين .." كافية، لأن النساء سيريْنه بعين الأنثى، فالكتاب تعبير واختصار عن مكانتها في حياته على الخصوص. عاش مرتين، أولى قبل أن يعرفها، وكانت مجرّد ظل جميل على الشاشة، والثانية حين عرفها عن قرب، فكُتبت له حياةٌ جديدة، قلّ من يظفر بها من الرجال بعد أن يبلغوا أشدّهم. ولذلك لم يتردّد في تخصيص فصلٍ كامل من مذكّراته، ذات الستة والعشرين جزءاً، عن حياته معها، أو عن وجودها في حياته.
في حياة كل رجل مشهور، تبحث المرأة عن المرأة. وفي الواقع، تنظر النساء بعين الحسد إلى الرجل المشهور الذي يتزوج امرأة عادية، ويفصح عن سعادته معها. ولكن أن يتزوج رجلٌ مشهورٌ من امرأة مشهورة، ويتكلم عن سعادته معها باستمرار، فهذا كان من الممكن أن يكون مجلبةً لإصابة حمدي قنديل، صاحب الكتاب، بمرض عضال، مثلما حدث معه حين كان شابا يافعا، ولازمه صداعٌ مستمرٌّ، دعا أسرته البسيطة إلى الاعتقاد أنه قد أصيب بسحرٍ من حاسد آثم، لكن سيجارة واحدة كانت علاجه، ولم ينقطع عن التدخين منذ ذلك اليوم. وحب الزوجة الحسناء، وتفهمها واحتواؤها، كان علاجه من أعين الحاسدين الذين توقّعوا عدم استمرار هذا الزواج؛ أسوةً بزيجات المشاهير، لكن زواج حمدي قنديل، الإعلامي والصحافي والكاتب الذي رحل عن 82 عاما، قضى معظمها وهو يحمل قلما من رصاص، استمر، حتى نهاية حياته، وظلت عروس السينما المصرية نجلاء فتحي التي أعجب بها في هدوء، وتزوجها ببساطة، إلى جواره، وكانت مستشاره وطاقم إعداد برامجه، وصحبة سفره حين يتنقل إلى إجراء حواراته من دون ضجيج.
تستوقفني كثيرا، ومنذ زمن، كل حالة زواج بين زوجين في سن النضج والعقل. ولذلك، كنت أتتبع أخبار الزوجين السعيدين، خصوصا بعد الإعلان عن إصابة نجلاء فتحي بمرضٍ نادر، والتصريحات المؤلمة التي تحمل كل الحب التي كان يخرج بها حمدي قنديل بين حين وآخر عن حالتها الصحية، وهي المرأة التي أشعلت جرأتُها النار فيه، فلم يتردّد في قبول الزواج منها، وهي تتقدّم لخطبته من دون تردّد، وتحدّد موعداً لذلك بكل بساطة، وفي سابقةٍ قليلا ما تحدث.
وفي سابقة نادرة أيضا، كان حمدي رافضا اعتزال نجلاء فتحي فنيا، وقد كانت تريد أن تبقى إلى جواره رفيقة درب، وتقوم بدورها في حياة إعلاميٍّ، يحمل أصالة المصري، وقلبه يضج بعروبته، وأفكاره قوميةٌ وطنيةٌ تتربع فيها محبة فلسطين وتشغله قضيتها.
خلب لبّها الصوت الرصين الذي يدعوك إلى أن تتابع حديثه حتى النهاية. ويمكن القول إن حمدي قنديل قد عاش مرات كثيرة، لأنه في كل مرة كان يهاجم فيها الأنظمة العربية، ولا يتم وضع حد لحياته، يعيش من جديد. وموقفه المعروف المتحمس للانتفاضة الفلسطينية الثانية لا يُنسى، حين هاجم في برنامجه "رئيس التحرير" صمت الأنظمة العربية وضعفها، ما أدى إلى إيقاف البرنامج، لكنه بدأ ببرنامج آخر في مكان آخر، استقطب ملايين المشاهدين، وهو برنامج "قلم رصاص" الذي تم إيقافه بعد خمس سنوات.
لفتني قنديل في أول مرة تابعت برنامجا له بمقدمته المختصرة التي يحيي بها جمهوره "أهلا بكم"، ثم يبدأ في قراءة الأخبار وتحليلها. وكان أسلوبه هذا عمليا لا يتماشى مع نمط المذيعين الذين يعتمدون المقدّمات الطويلة، على سبيل التشويق، ولكن العكس يحدث، فقد أرسى، في عمله الصحافي التلفزيوني، قواعد البرنامج الإخباري الناجح. وهو أول من نقل الصحافة إلى التلفزيون في برنامجه "أقوال الصحف"، والطريف أن الجمهور العربي كان يعتقد أنه سوري الجنسية. ومن متابعة برامجه، أحببت المُحاور الذي مرّر السياسة بهدوءٍ على الشاشة، فلا صراخ، ولا إشاحة يديْن في حديثه، ولا مصطلحات إنكليزية تخالط كلامه، لأنه يخاطب البسطاء. وربما لأنه المثقف الذي يحيّر السلطة ولم يتحدّها، استطاع أن يعيش مرتين.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.