الغربال

الغربال

30 نوفمبر 2018
+ الخط -
يُسلطن الغربال في مَوسم البذار بين ذراعي أمي، وهي ترقّــص القمحَ بحركات دورانية اهتزازية ينتج عنها قوةٌ نابذة مركزها وسط الغربال، تتجمع فيها الشوائب وما تسلل غريباً إلى حبات القمح النقية.
تتشبث رؤوس القمح السمينة بخيوط الغربال، حتى آخر هزة، توقن أمي أنها لم تدع فرصة لكل رأس وضيع من القمح للفوز في حب البقاء على سطح الغربال، فتقبض بكفها السمراء على ما تجمع في الوسط من شوائب، كما أنها لا تقسو بكفها، وهي تقبض على الشوائب، حتى لا تهضم حق من صمد من رؤس القمح السمينة في جوف الغربال.
وبحركة متقنة، تتهادى حبات القمح على الثفال، ضاربة موعداً مع الأرض التي اغتسلت من مخاض الحصاد واستعدت لموسم البذار بحيض جديد.
وللغربال شقيق آخر اسمه السّراد، لكنه أكثر تهاونا وأقل حزما من شقيقه الغربال، وذلك لفتحاته الكبيرة. بهزة بسيطة لا يصمد من فيه، سوى أكباش الحبوب الكبيرة وأعواد القش التي تسللت إلى مجتمع القمح المتآلف، وهي عادة ما تكون غريبة غير مرغوب بها من قبل رؤس القمح المسرودة.
والأكثر صمودا أمام فتحات السراد الواسعة هي الحبوب التي ما زلت متشبثة بعمود السنبلة بشكل متعاقب، وقد همسن رسالة إلى ما تسرب من الرؤوس رغم سمنها "في الاتحاد قوة"، وذلك رغم ضربات فؤوس "الجرجر"، ورغم أنف أصابع "المذراة".
ويختلف طعم الهواء ما بين مكان وآخر، فما تحت الغربال غثٌ غادر الحياة، وما تحت السّراد وفوق الغربال ماض لاحتضان الأرض بذوراً تعد بأمل قادم.
أما الصغير من هذه الأسرة المغربلة هو المُنْخل، فالمنخل هو سليل الغربال وابنه البار وهو أكثر حزماً من الغربال، هو محظوظ على الرغم من ضيق خُلقه، وعلى الرغم من حزمه في التعامل مع من يدخل قعره، فهو كمراقب شديد في امتحان الثانوية "لا يعبر ولا يعطي الجُراب".
ويأتي حظه من دورانه جذلاً بين أذرع الصبايا، ينقي ما طُحن من كحل أثمد، وما دُق من محلب وقرنفل وخُضيرة، ينخلها وينقيها بدقة ليُصنع منها رشوشاً وعطراً يختبئ بأطراف "الهباري" وخيوط خرز "المناحر والخنانيق".
هل نصمد أمام الغربال في زمن غربالنا الكبير؟
ما بين غربال ميخائيل نعيمة وغربال زمننا هذا، هزّة تقرر المصير.
D88A0091-2DAC-4988-88B4-33076458D691
D88A0091-2DAC-4988-88B4-33076458D691
فرج الحسين (سورية)
فرج الحسين (سورية)