واشنطن ومفهوم الحوار

واشنطن ومفهوم الحوار

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
يذهب السؤال في الحوار وعنه، إلى قلق آخر يكتنف أصل المساءلة ودقتها، وربما يعيدها إلى التحديدات الأولى لمفهوم الحوار وصوابية التصنيف تحت وقع التغييرات التي حدثت وتحدث في منطقتنا. ولا نغالي كثيرا بأن الالتباس المعطى في تلمس الأفق الذي يرنو إليه السؤال: إلى أين؟ يحيل إلى الأصول في المحاكمة وممارسة الإلغاء التام في المبنى والمعنى. لذلك، الدعوة لكل الأطراف لقول كلمتها، إيمانا منها بأهمية الحوار والنقد، وصولا إلى قول مختلف، لا يدّعي ما لا يملك ولا يمارس استبدادا في غواية الامتلاك. إنه الحوار، وفي الحوار يأخذ العقل امتيازه النقدي، وتجد المعرفة ربيع استمرارها، وتنوع أصواتها، ولا يمكن اختصار الحدائق بوردة واحدة رغم ما يمكن أن تضمه من رائحة مشتهاة.
الحيوية السياسية تعني الجاهزية للاعتراض، وإعمال العقل النقدي فيما يصدر عن السلطة، بدلا من التسليم والتمجيد المعهودين. ليس الاعتراض من أجل الاعتراض فحسب، بل من أجل الوصول بالمناقشات الإيجابية التي تستجلي الحقائق وإماطة اللثام عن المبهمات والاشكالات.
تعتبر التغييرات الحاصلة التي تتصدر المشهد، سيما في الدول الكبرى التي تشهد انتخابات باهظة ومكلفة من حيث المال والبشر، تعبيرا واضحا لا لبس فيه، بممارسة الحوار والديمقراطية، فواشنطن مثلا يقودها رئيسٌ جديد، يعيدنا إلى الشوفينية الأولى، إلى فكرة "الدم النقي" والتنكر للآخر، فحتى حلفاؤه المقربون لم يسلموا من تصريحاته اللاذعة، حيث وصفهم بأبشع العبارات، ناهيك عن الابتزاز الفاضح ومطالبتهم بدفع المال مقابل الحماية.
تحاول بعض الدول المناهضة للمشروع الأميركي أن تفك الالتباس الدائر حول فكرة إلى أين تمضي السياسة الأميركية المتغطرسة بعنصر القوة من دون الاعتراف بالآخر، والتي تسعى جاهدةً لقول كلمتها في هذا العالم المغرق بالمكائد والدسائس، فواشنطن، لم تكن يوما صادقة بأقوالها وأفعالها، ويشهد بذلك هنري كيسنجر بقوله: "صداقة أميركا أخطر من عداوتها".
تقصد واشنطن بالحوار الخضوع والخنوع لمشروعها "الإلهي"، حسب زعمها، وهذه بعض عباراتها: "على الأجناس الأدنى من العالم، الانصياع لإرادة الأجناس الأعلى"، لأنهم مكلفون ومسؤولون بذلك. وقد قالها الرئيس الأميركي السابق، هاري ترومان، بصريح العبارة: "نحن نتولى المسؤولية التي كلفنا الله تعالى لرفاه البشرية لصالح الأجيال القادمة".
وقد نصح سيناتور أميركي سابق المسؤولين الأميركيين: "لا تتحدثوا عن الديمقراطية كثيرا، لأنكم ستجدون من يُقيم عليكم الحُجّة من أقوالكم". قيمة الديمقراطية في المجتمعات المتحضرة لا يمكن التنازل عنها، وهي تعتبر بمثابة إكسير الحياة، فالديمقراطية التي ارتضوها لأنفسهم ليست التي يمارسونها مع العالم، وخصوصا في الملفات المعقدة والشائكة. وعلى سبيل المثال، القضية الفلسطينية وإجماع الدول الاستعمارية الكلاسيكية على محاولات طمسها.
من المفترض أن تكون الديمقراطية الحامل الرئيس للحوار، والأهم من ذلك الاعتراف بالآخر حسب توصيات سقراط . لكن كما يقول المثل "عند النيات الطيبة تستولد النيات السيئة"، فجبروت الولايات المتحدة الأميركية وعدوانية إسرائيل في المنطقة حالا دون تحقيق أدنى المتطلبات الشرعية والوطنية الفلسطينية.
يسكت العالم على حصار قطاع غزة، ويرضى بسجن أكثر من مليوني فلسطيني، ويصمت على جرائم إسرائيل اليومية، ويقبل بها بالمحافل الدولية، ويقطع الرئيس الأميركي وسائل الدعم عن الفلسطينيين، ويحثّهم على الجلوس على طاولة الذل الصهيونية، ويطلب من رئيس السلطة بقبول كل ما تراه إسرائيل، وإلاّ سيواجه مزيدا من العقوبات والعزل والحصار.
بطبيعة الحال، هذه رؤية الأبيض الأنغلوساكسوني بالحوار، وهذه تصوراته النهائية، فالبعوض لا ينتج العسل. في المقابل، ما هي الاستراتيجية التي من شأنها الوقوف بوجه الصلف الأميركي؟ إلى متى يستمر الاختلاف والخلاف الفلسطيني الفلسطيني؟ إلى متى تبقى السلطة تمارس سياسة الارتجال على الفصائل الفلسطينية الأخرى؟ ألا ينبغي عليها أن تكون عند حسن ظن الجميع، وتكون رافعة النضال بوجه الكيان الصهيوني؟ وعلى الفصائل الفلسطينية الأخرى، أيضا التخلص من حسن الظن بالاحتلال الصهيوني ومقارباته الخادعة بغية التوصل لحلول مؤقتة وما شابه. الارتجال أو حُسن النيات يؤدي، في نهاية المطاف، إلى الكارثة.
محمد عياش
محمد عياش
محمد عياش
كاتب وباحث سياسي فلسطيني، يؤمن بمقولة "من طلب الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه".
محمد عياش