من سيرة محمود السّمرة

من سيرة محمود السمرة

13 نوفمبر 2018
+ الخط -
يخصّص المعلم، وعالم الأدب العتيد، محمود السّمْرة، والذي رحل السبت الماضي عن 95 عاما، فصليْن من كتاب سيرته "إيقاع المدى.." (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2006)، لأسفاره إلى مدنٍ عديدةٍ في الغرب والشرق، يختار نتفا من مشاهداتِه فيها، وانطباعاتٍ لديه عن ناسها وعوالمها. وإلى رؤساء دولٍ وأساتذةٍ وعلماء ووزراء وشخصياتٍ رفيعةٍ عديدة في العالم، يكتبُ عن لقاءاته معها، في هذه الأسفار، فإنه يأتي أيضا على مسرحياتٍ شاهدها وكتبٍ أُهديها أو انتقاها ومتاحف وقصور ومآثر عمرانية طاف فيها، غير أن كتابته هذه لا تُنسب إلى ما جرى التعاقُد على تسميتِه أدب الرحلة، وإنْ يمكن وصلُها به، وذلك لأن السّمْرة اعتنى بالتسجيل العابر، واستدعى مواقف ومصادفاتٍ ومفارقات، وطرائفَ أحيانا، من دون كثير انشغالٍ بما هو أبعد من ذلك.
ولكن، في حسبةٍ أخرى، يمكن القول إن الكتاب كله (216 صفحة) ليس فقط عن رحلةٍ في مغالبة الحياة، ومحبّتها أيضا، وفي كيفيات اختبار الذات والعقل قدراتِهما، وإنما يتوفّر أيضا على سياحةٍ في معارف العالم وثقافاته، من فرط الإشاراتِ فيه إلى رواياتٍ وقصصِ ومسرحياتٍ وموسيقاتٍ وسيمفونياتٍ وأفلام سينما أوروبية وأميركية وآسيوية (العربية غائبة أو نادرة جدا)، طالعها أستاذُنا أو كتب عنها أو شاهدها، منذ يفاعته الأولى، في قريته الطنطورة التي أعمل الغازي الإسرائيلي فيها مذبحةً مريعةً، مرورا بدراسته في جامعة الملك فؤاد (القاهرة لاحقا) في خواتيم الأربعينيات، ثم العمل مدرّسا في الكويت، ثم الاغتراب لنيْل الدكتوراه في لندن التي يسرُد محمود السّمْرة بتداعٍ طلق عن مسار الوصول إليها بحرا، ويستدعي مشاهداته الأولى فيها، وانصرافه إلى القراءة في مكتباتها، والدّرس على أساتذتها، وذلك كله في سردٍ شائق، سيما وأنها شجاعةٌ طيبةٌ، وعملٌ نادرٌ ربما، من أستاذنا، نشره في الكتاب رسائله من هناك إلى زوجته في فلسطين ثم في الكويت، والتي كانت معه في رحلته إلى لندن، من دون طفليْهما، قبل أن تعود مع اشتعال حرب السويس. وفي هذه الرسائل كثيرٌ من الانكشاف، والوله الأول بحبيبةٍ غائبة.
مفيدةٌ جدا مذكّرات محمود السّمرة في تعريف قرّائها بكفاح شابٍّ فلسطيني في رحلته إلى العلم والمعرفة، إلى النجاح والتفوق، في الأربعينيات والخمسينيات الفلسطينية، الصعبة، سيما وأن ذلك الفتى الذي كانه أستاذُنا اتّصف مبكّرا بذهنٍ منفتحٍ على الدنيا، يهوى معرفة العالم. أتقن الإنكليزية من صغره، ومن المثير أن أطروحته في الدكتوراه درست "أثر الحضارة الغربية والإرساليات التبشيرية في الفكر الإسلامي في بلاد الشام من 1860 – 1920"، ونال عليها تقديرا ممتازا في صيف 1958، كما حاز جائزةً رفيعةً من مجلس الدراسات العليا في الجامعة، لمّا استاء من ذلك العضو في المجلس، المستشرق برنارد لويس، لدوافعه الصهيونية تجاه شابّ فلسطيني متميز ونابه.
وهنا، يحسن التذكير بأن السّمْرة من الأكاديميين العرب المبكرين ممن انكبّوا على تعريف القراء العرب بنتاجاتٍ أدبية غربيةٍ رفيعة، بترجمتها وعرضها، وله في هذا أكثر من كتاب، منها "أدباء معاصرون من الغرب" (1964)، و"متمرّدون، أدباء وفنانون" (1974)، و"أدباء الجيل الغاضب" (1970). وترجم كتابا عن همنغواي صدر في 1961. ولا تُنسى إطلالاته في مجلة العربي الكويتية، "كتاب الشهر"، المجلّة التي كان السّمْرة من مؤسسيها، ونائب رئيس تحريرها من عددها الأول في 1958 حتى التحاقه بالتدريس في الجامعة الأردنية في عمّان في 1964، والتي تقلد لاحقا منصب عميدٍ فيها، ثم نائب رئيسها سنوات، ثم رئيسا لها، وظلّ في سنوات مهماته الإدارية كاتبا وباحثا وأستاذا، ومشرفا على أطروحاتٍ جامعيةٍ في الأدب والنقد، وهو العاشق لفن الرواية، كما يُخبرنا في كتاب سيرته الشائق، المدعوّ هنا إلى قراءته، والإفادة من خاتمته "حصاد الرحلة"، وفي الرحلة محطاتٌ ومحطاتٌ، منها تولي السّمرة منصب وزير الثقافة في الحكومة الأردنية. ومما كتب عما علّمته إياه الحياة أن من حق نفس الإنسان عليه أن يعيش الحياة، وأن يستمتع بها، وأنه لا قدرة لمن لا يحب الحياة على العطاء الكامل.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.